مني النمر تكتب: الوهم الخادع …!!

 

لا شيء يهزم الإنسان مثل المبالغة ؛ أن تبالغ في الحزن فتغرق ، أو في الفرح فتغفل .
أن تبالغ في تقدير المواقف فتتألم ، أو في تقدير الأشخاص فتخذل .
أن تبالغ في الانتظار فتستنزف ، أو في البقاء فتبهت .
أن تبالغ في الاهتمام بآراء الناس فتتوه ، أو في التفريط بحقك فترخص .
المبالغة هي الوهم الخادع ، والفخ الخفي ، فكن متوازنا تسلم …

يولد الإنسان بقلب صاف و حب الخير ، لكنه حين يكبر ، يكتشف أن طيبته وحدها لا تكفي ، وأن النقاء في عالم لا يعرف إلا التهويل والمبالغة ، قد يكون عبئا أكثر منه نعمة . نعيش أحيانا تفاصيل بسيطة ، لكنها في داخلنا تتحول إلى معارك شرسة ، لا لشيء إلا لأننا أعطيناها أكبر من حجمها .
كل شيء يمكن أن يحتمل إذا بقي في حجمه الطبيعي ، حتى الألم له نصاب محتمل ، لكن حين نضخمه في دواخلنا ، ينقلب علينا ويأكلنا قطعة قطعة …

المبالغة ليست فقط في المشاعر ، لكنها في ردود أفعالنا ، في حكاياتنا التي نرويها لأنفسنا ، في الظن ، في التوقع ، في الأمل ، في القلق ، في كل شيء .
نحن نصنع الوحش بأيدينا ، ثم نرتجف منه كل ليلة …
نضخم الأحداث التي مررنا بها حتى تملأ شاشات عقولنا ، ونتوه في تحليل كلمة ، أو نظرة ، أو موقف عابر ، وكأن الحياة توقفت عند تلك اللحظة …

المبالغة تفقدنا إحساسنا باللحظة الحاضرة ، لأنها تدفعنا إلى العيش إما في ماض نضخمه حتى يصبح سجنا ، أو في مستقبل نتخيله حتى يصبح فزاعة .
وحين نبالغ في الشعور بالخوف من الفقد ، قد نفقد كل شيء .
وحين نبالغ في الحذر ، قد نفوت كل ما يستحق .
وحين نبالغ في الاحتياط ، قد نعيش عمرا أمواتا لم نحياه من الأصل …

لا أحد ينجو من المبالغة ، كلنا وقعنا فيها ، وربما ما زلنا نقع .
نبالغ في الندم حتى لا يبقى فينا شيء لنبدأ من جديد ، ونبالغ في لوم أنفسنا على ما مضى ، وكأن جلد الذات سيعيد الزمن أو يصلح الخراب .
نبالغ في الاعتذار للآخرين وننسى أن نعتذر لأنفسنا …

نحن نمنح بعض البشر مكانة فوق الحقيقة ، ونلبسهم ثوب المثالية ، ونعاملهم على أنهم الملاذ الأخير ، ثم نسقط حين يظهرون حقيقتهم ، ليس لأنهم أسقطونا ، بل لأننا رفعناهم في خيالنا أكثر مما يحتمل الواقع …
المبالغة في تقدير الآخرين ليست طيبة ، بل فقدان للبوصلة …
والمبالغة في البقاء في حياة لا تشبهنا ليست تضحية ، بل فناء بطيء …

الحياة لا تحتاج إلى كل هذا الصخب الداخلي ، تحتاج فقط إلى أن نرى الأشياء كما هي ، دون تكبير أو تصغير .
أن نحزن حين يوجعنا شيء ، لكن دون أن نقيم فيه .
أن نفرح حين نعطى هدية من الحياة ، دون أن نعتقد أن الدنيا دانت لنا .
أن نحب ، لكن دون أن نذيب أنفسنا .
أن نسامح ، لكن دون أن ننسى أنفسنا …

التوازن لا يعني البرود ، ولا الجفاف ، ولا قلة الحيلة ، بل هو الوعي الكامل بكل ما حولنا ، والقدرة على الشعور دون أن يغمرنا .
أن نعيش المشاعر ، لا أن نغرق فيها .
أن نجيد الإصغاء لأرواحنا وهي تخبرنا بأن هذا يكفي ، بأن هذا الحد آمن ، وما بعده مهلكة …

ففي كل مرة بالغت في شعور ما ، اسأل نفسك:
هل يستحق …؟
هل هذا الموقف ، هذا الشخص ، هذه الكلمة ، تستحق أن تستهلك منك كل هذا …؟
هل تنفق عمرك في شيء لا يعود عليك إلا بالإنهاك …؟!!
ستفهم بعد وقت أن نصف المعارك التي خضتها كانت معارك وهمية ، والنصف الآخر لم يكن يستحق أن تشهر فيه سيفك أصلاً …

المبالغة في أي شيء تسحبك من ذاتك ، تشتتك ، تستهلكك .
عش الحياة بحجمها الطبيعي ، وافتح قلبك بحذر ، واغلق أبوابك حين يلزم الأمر ، ولا تعط شيئا أكبر من حجمه ، ولا أحدا أكثر مما يستحق …

كن رحيما بنفسك حين تخطئ ، ولا تجعل من الحزن مقاما ، ولا من الحب قبرا ، ولا من الناس آلهة تعبد …

فأنت لا تحتاج أن تبالغ كي تكون حيا … تحتاج فقط أن تكون حاضرا ، صادقا ، متزناً …
وهذا يكفيك لتعيش الحياة بسلام …

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى