نتـلُ عليـك مــن أنبـاءِ الحُــــزن

بقلم / أحمد عبد الحليم

الحزن شهوة.. شهوة تشبه شهوة الجنس والأكل.. فالشهوات والغرائز والرغبات والمئارب يمكن أن نختصرهم في عبارة واحده ، وهي “إرادة الكائن الحي” وهي ما تميزه عن باقي المخلوقات.. إلا الحزن ، فإنه المِزيةٌ الفارقه والوحيدة التي انفرد بها الإنسان ، إنه دلالة الإنسانية التي تميزنا عن بقية الأنواع.. فهو كالنيران المتأججة.. يُمحص الإنسان ويدفعه للتعبير عنه بطرق مُلهمة.. فالمرء حين يتألم يشعر بلذة ما غير منطقية أو مُبرره !.. لذة تكون بمثابة وقودٍ لمخيلته ، يشعل الرغبات والإبداع في داخله ويدفعه لتجسيد حزنه ومعاناته في صورة قصيدة تُلهب حواسنا ، أو لوحة سيريالة عميقة نتوه في تفاصيلها ، أو مقطوعة موسيقية تثير الشجن والحنين ..

أروع الأعمال الفنية الخالدة للبشرية هي وليدة لحظات حزن وخيبات لأصحابها.. لحظات حيرة وقلق، لحظات خوفٍ و وحشة.. نُجسد معاناتنا كي تكون أثراً يدل علينا بعد فنائنا..

أكثر المخلوقات تطوراً وذكاءً لا يستطيع فلفسة أحزانه ، ولا حتي أن يعبر عنها بعمل أدبي علي غرار ماركيز أو مسرحية شعريه من مسرحيات ألليجري أو لوحة كلوحات دافينشي او مقطوعة من معزوفات بيتهوفن.

أعظم ما في الحزن أنه يشعرنا بأننا بشر وأننا قادرون على أن نبنيَ من جراحاتنا صروحاً من المعاني والخيالات والملاحم والعبرات.

فالحيوان عندما يصاب بجرح في جسده فإنه وفقط ، يتألم ثم يلعق جراحه فتنتهي ” قصة الجرح” هنا !.. لن تراوده الفكرة بأن هناك قدراً جائرً يحيق به ، أو حظاً عاثراً يلاحقه ، أو قسوةً وظلماً ومؤامرة ضده.. أو كل هذه المعاني التي تُثير وجدانه لإعادة فَهم العالم من جديد “..  عندما يجتاحُك الحزن فيَغُص حلقك وتسيل دموعك.. عندما تقبع عليك الخيبة وتشعر بأنه حتي الرمال تقف في طريقك لتتعثر بها ، وحتي الريح تجرى لتملأ عينيك وفمك بالتراب ,, وأن كل ما في هذا العالم صار يكيد لك ويتربص بك ليُهلكك !.. عندها ستدرك أن الحزن ” ينبوعٌ كبير ” تنهمر منه أكثر المعاني التي تكون مشاعرنا وأفكارنا و وجداننا.

إن الألم يصنع الرغبة في الخلاص والتحرر والانعتاق ، الخلاص من الجرح والجارح.. التحرر من الأشياء التي تقتحمنا دون إرادة منا لتُرهق أنفسنا، الانعتاق من قيود الحتمية والإرغام والضعف والعجز الذي يعترينا.. فتسمو النفس، وينبعث الجوهر الإنساني ويبزغ بالخيال ، وترتسم على شفاهِ المقهورين مصطلحات راقية مثل ” الثورة، الحرية، الفن، البطوله “.. وكلما زاد الحزن زادت نزعة السمو على ” القيد والعجز ” حتى يبلغ ببعضهم أن يُلقي بنفسه من فوق أحد المرتفات أو يصوب الرصاص علي رأسه ليتحرر من اقرب الأشياء له.. جسده و قلبه وحواسه ! .

لهذا نجد أن الحمقى لا يحزنون حزناً جوهرياً لأنهم لا يستطيعون فلسفة أحزانهم، فقط يكتفون بدرجة التألم الحيواني المرتكز على الصبر اللامبرر والقبول البليد للأمر الواقع !.

فالحزن قوامه الشعور العميق بمعنى “النفس” وأنها مستقلة وتستحق أكثر مما ترميه لها الحياة من فُتات الرفاهية والحظ.

ولذلك تجد في شخصية الإنسان الحزين بُعد إنساني غامض، وزَخماً من المعاني العميقة في بحر كبير من ” الآدمية ” والإراده والشعور والمبدأ.. جاذبية غريبة لو تمعنت بها لوجدت أنها جاذبية النكهة الإنسانية في جوهر وروح ذلك الحزين !.

ولهذا عندما فسر الفلاسفة الأوائل “لذة نشوة الحزن” قالوا بأنها حالة من الوصول إلي ذروة الفناء في الألم وبلوغ النقطة التي بعدها لا يكون في مقدور الإنسان إلا التلذذ والتماهي مع ذلك الشعور.. ولو أبصرت نفسك في قمة الألم ستجد أن هناك بصيص خافت من الأمل والإنفراج في أقصى آفاقِ روحك.. فتشعر بلذة غريبه غير منطقيه.. ولكنها تهون عليك ما يغمك ، بالرغم من أنك لا تعرف لها سبباً ولا سر الشعور بها في هذه اللحظة بالذات.. ولكنها تجَلي الإنسانية داخلنا.. عِزةُ روحنا المتئآبية التي تُذكرنا كلما اقتربنا من ” ذروة الألم ” أن كل شيء له حَدٌ ينتهي عنده.. حتى الألم ذاته !.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى