خطورة التمدد العشوائي للمدن

بقلم / فهد إبراهيم الدغيثر

وصلتني رسالة «واتساب» قبل أسبوع، تحمل عرض بيع عقار في مدينة دبي عبارة عن أرض فضاء مساحتها ٤٥٠٠ متر مربع، وتقع في قلب حي سكني فاخر يسمى «تلال الإمارات». سألت المرسل عن السعر المطلوب، فأجاب بأنها معروضة بـ٥٥ مليون درهم إماراتي. هذا يعني أكثر من ١٢ ألف درهم للمتر المربع. سبب ارتفاع سعر هذا العقار هو ما يتوافر في هذا الحي من عوامل متعددة، ارتفعت بجودة الحياة، وحافظت عليها منذ تأسيسه قبل ١٨ عاماً. منظومة أمنية على مستوى عالٍ، ومنازل محاطة بمناطق خضراء وبحيرات، ومتاجر قريبة، ومدارس أطفال ومستوصفات. حتى محطات الوقود في تلك المنطقة تشعُّ نظافة، إذ يمكنك الجلوس بمجمع المحطة في مطعم وجبات سريعة وبجانبك محل لتغيير إطارات السيارات يتباهى مع المطعم في نظافة أرضيته. وبالطبع صيانة كل ما ذكرت بجودة لا تقبل أقل من درجة الامتياز على مدار الساعة.
زمن نشأة وتشييد هذا الحي هو التاريخ نفسه الذي نشأ فيه حي «المحمدية» في الرياض والأحياء المجاورة، التي «كانت» تعتبر أرقى أحياء الرياض. ما حدث في الرياض ربما حدث ويحدث في معظم المدن العربية، لكنني اخترت الحديث عن الرياض، كونها ربما تشكل أضخم توسّع حضري من بين العديد من العواصم العربية. المؤسف أن «المحمدية» اليوم وقبله حي «الرحمانية» وقبل ذلك «العليا» وقبل كل هذه الأحياء حي «شمال المربع»، الذي «كان» نموذجياً، و «السليمانية» و «حي الضباط» و «عليشة»، اليوم معظم هذه الأحياء في الرياض، خصوصاً ما تم النزوح إليه في نهاية السبعينات، فقدت قيمتها. أهلها يستمرون في الهجرة منها إلى أحياء جديدة شمالاً. لماذا يحدث ذلك؟ وإلى أين ومتى؟
السبب أن التخطيط الأصل لمعظم الأحياء التي أشرت إليها لا يحمل المواصفات اللازمة للبقاء بحالة جيدة لزمن طويل. الصيانة العامة لهذه الأحياء هي الأخرى تتدنى عاماً بعد عام. بل حتى المنازل التي تم بناؤها في السبعينات أصبحت في نظر ساكنيها منازل قديمة في تخطيطها الداخلي، ولذا فالمالك المقتدر وحتى غير المقتدر يرغب في بناء منزل «عصري» جديد. لكن بدلاً من البناء في الموقع نفسه يفضل النزوح إلى منطقة جديدة، وما كان عصرياً في الثمانينات والتسعينات ربما أصبح قديماً اليوم وهكذا. بالأمس القريب شاهدت أحياء جديدة شمال طريق الملك سلمان (٥٠ كلم عن الرياض)، تم تخطيطها واعتمادها بالنهج السابق نفسه.
النتيجة غياب فكرة الإبقاء على الأحياء السكنية، والتمدد بصورة فوضوية ومرعبة إلى مناطق جديدة، وما يصاحب ذلك من ارتفاع الإنفاق على البنى التحتية قبل أن يتحقق عائد تكاليف البنى التحتية للأحياء المهجورة. عملية اقتصادية فاشلة، ولا تحقق أي جدوى، فضلاً عما يسببه ذلك من محاذير أمنية، كون الأحياء القديمة تحولت مرتعاً للعمالة الأجنبية.
هل كان بمقدورنا مثلاً أن نحافظ على جودة حي «العليا» كمثال، لنصف قرن بدلاً من المرور العابر الذي بدأ في الثمانينات ولم يستمر إلا عشر سنوات فقط؟ الجواب نعم بكل تأكيد. القصة تبدأ من الترخيص للمخطط الأولي للحي، وفرض مساحات للترفيه والخدمات، وإجبار المطور على توفير الأمن والمراقبة وعقود الصيانة المناسبة. معظم الأحياء السكنية في مدن العالم تحولت منذ الثمانينات الماضية إلى بيت كبير، وأقصد بذلك أحياء محددة المنافذ، تسهل السيطرة عليها. لا يجب أن تتحول شوارع الحي إلى منافذ لأحياء أخرى، وهنا نتحدث عن التخطيط الشامل للمدن، وهذا بالطبع غائب تماماً. نستثني مما ذكرت وكمثال للتخطيط السليم في مدينة الرياض «الحي الديبلوماسي» غرب المدينة. صحيح أن دواعي الأمن فرضت تخطيط هذا الحي بالشكل الرائع الذي نراه اليوم حتى بعد ٣٠ عاماً من إنشائه، لكن ما الذي كان يمنع فرض مثل هذا المخطط الجميل على أحياء أخرى عند تقديمها للجهات الحكومية بغرض الترخيص؟ لماذا نترك هذه المهمة الاستراتيجية في كل زواياها ومحاذيرها إلى تاجر عقاري بسيط ولا أقول لمطوّر عقاري، هدفه فقط بيع أكبر عدد من الأمتار التجارية والسكنية؟
على أنه لو تم الجلوس مع هذا التاجر «المطور»، وعرض المتطلبات النظامية المطورة أمامه، لبادر بالموافقة، إذ إن سعر بيع المتر مع هذه الخدمات سيرتفع، وهذا يعني تحقيق العائد الإجمالي نفسه الذي كان يستهدفه ولكن بمساحات أقل. بمعنى أن فرض التعديلات الجوهرية على طلب الترخيص لحي جديد قابل للسكن لعقود طويلة لن يضر التاجر، بل ينفعه، وينفع المواطن والمدينة والدولة وأجهزتها.
تحدثنا عن الشق السكني في الأحياء الجديدة، لكن ماذا عن التجاري؟ يجوز تطبيق هذا المفهوم الجديد حتى على التخطيط التجاري للحي. إذ بالإمكان توفير عدد مدروس للخدمات المطلوبة، ونتوقف عن بناء «الدكاكين» العشوائية، التي تجاوز عددها عدد سكان المدينة، والتي لا تقدم أي جديد، بل فقط أنشطة مملة ومتكررة وبأدنى مواصفات الجودة.
دعوني أختتم بالقول إن الأمن الذي يراقب منطقة حي «تلال الإمارات» وغيره من الأحياء في دبي بل وفي كل مدينة أميركية وكندية مشابهة، هو جهاز أمني أهلي خاضع مسبقاً لموافقة الشرطة الحكومية من حيث التعليمات وقواعد الاشتباك. بمعنى آخر أن تنظيم هذه الأحياء والمحافظة على أمنها وهدوئها سيوفر المال والجهد الميداني على دوائر الشرطة الحكومية. كل ما تحدثت عنه يصبُّ في وعاء برنامج كفاءة الإنفاق وجودة الحياة، الذي تحدث عنه ولي العهد السعودي قبل عام، والحاجة إلى ذلك حقيقة في غاية الإلحاح.
الآن كم عصفور تم اصطياده مع تطبيق مثل هذه الأفكار في مدننا؟ كم من المال سيتم توفيره في البنى التحتية والصيانة، فضلاً عن راحة البال والعيش في بيئة صحية ومطمئنة أمنياً؟ كم من فرص العمل الجديدة التي سيتطلبها الانتقال من الحالة العشوائية إلى الحالة المنظمة؟ كم عدد مقدمي الخدمة ممن سيجد الفرص أمامه للدخول في مثل هذه المشاريع؟ لا أظن أن القارئ الكريم في حاجة إلى من يساعده على الإجابة.
كتبت هذه المقالة قبيل الإعلان عن مشروع «نيوم»، الذي تم الإفصاح عنه قبل يومين، وسنتحدث عنه في مقالات مقبلة. لعلنا نستنتج مما جاء في حيثيات هذا المشروع صعوبة تطوير المدن القائمة بسبب هذه العشوائية، والوصول إلى نتيجة مفادها أن بناء مدينة جديدة أهون بكثير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى