أبي ثٌم أبي.. لَن يأتي مِثلُك أحدٌ، ولَن يأخُذ مَكانُك أحدٌ

بقلم/ أحمد القاضي

“الموت لا يُوجع الموتى.. الموت يُوجع الأحياء”٫٫ محمود درويش
ما أصعب الحياة دون وجودك يا أبي فرقتنا الأيام وجمعتنا الأحلام، فيا ليت كل أيامي أحلام.
مهما مرت السنون والأيام فما زلت أذكر ذلك اليوم جيداً، وأذكر أحدهم وهو يقول لي مُواسياً “جعلها الله آخر الأحزان” فتجوابت معهُ بإيماءة رأسي وبطنين قَلبي المنفطر ألماً: (بل هى بداية الأحزان، نَعم..ضاع الأمْان)، يومها سقطت دموعى وتوقف قلبي عن الخفقان لثوانٍ كانت أطول من الساعات، يومٌ فقدت فيه أعز من وطأت قدماه سطح البسيطة، صاحب الوجة المبتسم ذو الشخصية البسيطة، فقدت السَند والعَون. يومها فقط أدركت مَعنى كَلمة “فقدْ” تعايشت مع كُل مُفرداتها، توقفت طويلاً أمام حُروفها الثلاث،كانت لحظات للبحث عن الذات، كانت نهاية وبداية، نهاية لأيام مُفعمة بالإقبال على الحياة والسعادة لوجود رأس المال، رأس الحكمة، إنتهت الأحلام وتحولت إلى واقع حقيقي لابد أن أتعايش معه بكل حواسي وجوارحي، وكانت بداية لمواجهة مصيري وحدي وعليّ العبور لشواطئ الحياة دون قارب لنجاة أو حتى مِجداف، وأدركت معني أنه إذا مات أباك ماتت النصيحة وأيقنت بأن الفقد هو زوال جزء من النفس، إن ألم الفقد لا يُحكى ولا يُفهم ولا يُكتب ولا يُمحى، فليس الوجع إطلاقا في أيام الفقد الأولى بل نستشعرها بشدة حين تأتي لحظات سعيدة نبحث فيها عمن يشاركنا تلك اللحظات ولكن نجده قد رحل فنشعر بألم الفِراق وبمعنى الفراغ.

بلا أدنى شك أنّ آلام الفقد بسبب وفاة الأب أو الأم لا يُضاهيه ألم آخر في الحياة، وقتها تُصبح الحياة بلا معنى في عين الفاقد فكل روابط الدنيا إلى زوال إلا هذين الرابطين فهناك ديونٌ لا تُسقطها الأيام ولن يستطيع أحد أن يُوفيها مهما مَر الزمان..دين الأب أحدهم.
أزعُم بأننا جربنا جميعا آلام الفقد! حتماً أكيد، لكن من وجهه نظري أن الفقد ليس أن تواري الأجساد الثرى ولا أن تبلى الأشياء بفعل الزمن، الفقد الحقيقي هو أن تجد ما تحبه أمام عينيك لكنك لا تستطيع أن تتشاركه مع من رحل عن دُنياك، فالفقد هو نوع من العجز.

ومازلت يا أبي كلما حَلُمت بك في منامي أستيقظ لأتحسس وسادتي فأجدها مُبتله بدموعٍ تتساقط في وسط أحلامي، أشعر بسعادة غامرة حينما أراك في حُلمي وأحزن بشدة حينما لا أجدك في واقعي.
أذكر حينما كنت في فترة المراهقة وقبل رحيل أبي بسنوات قليلة كانت بيننا العديد من النقاشات وأحيانا الإختلافات في وجهات النظر بطبيعة الحال لإختلاف الأجيال، وكنت أمتعض من فكرة السيطرة أو فرض أمر واقع ولكني كلما مر بي الزمن ووصلت لمرحلة أكبر من النُضوج أتأكد من صحة وجهة نظره الثاقبة وأشهد بقدرته على وزن الأمور بميزان من الذهب – حيث أنه في واقع الأمر كان يخشى عليّ أكثر من نفسي الطائشة فكان لابد من وجود تلك البوصلة لإعادة توجيهي لطريقٍ مستقيم، وبالمثل هو ما يقوم به كل أب طبيعي مُحب لأولاده خوفاً عليهم من لطمات الحياة ومن الوُقوع في شَركها الذي لا ينتهي.
إن كل منا لهو إمتدادٌ حقيقي لأبويه فقد يرى الآخرون في وجهك صورة لأبيك أو لأمك، فكُن لهما خير سفير، إجعل من يراك يدعوا لهما أمامك ومن خلفك، أجعل من نفسك خير خلفٍ لخير سلفٍ، وكن ذلك الرافد المستمر بعد إنقطاع العمل فتكن الولد الصالح الذي يدعو لهما بل ويُجبر الأخرين للدعاء لهما.

إن للموتى رنين بالذاكرة يصدح عندما نذكر أسماؤهم، نستشعرهم بحواسنا ونكاد نُبصرهم في كل مكانٍ حَولنا، موج من الذكريات يتدفق حينما نشتم نسماتهم من عالم آخر لا نعلمه، رحم الله ضحكات لا تُنسى وملامح لا تَغيب عن البال وأحاديث إشتقنا لسماعِها. فكل شيء دون الفقد هينٌ
رحم الله كل روح غالية لها في قلوبنا ذكرى باقية تحت الثرى عالية، ولكن هذه الدنيا دائماً ما تَذهب بعيداً بمن تُحب قُلوبنا وتهوى، ولكن حِكمة الله أكبر وأعلى من كل شيء.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” أتاني جبريل فقال: يا محمدًا، عِش ما شِئت فإنك ميتٌ، وأحبب من شِئت فإنك مُفارقه”
الشاهد بأن الدنيا دار عمل وشقاء لا دار لقاء وبقاء، وعلينا جميعاً أن نُوقن بأننا يوماً ما بإذن الله سَنلتقي من نُحب في مكان أفضل من دنيانا تلك في حياة أطيب لن تنهي إلى أبد الآبدين، وقتها لن نشعر بألم الفقد مرة أخرى، حيث النعيم بلا موت.

 

الحزن كأي جرح يحتاج إلى وقت ليلتئم. لكن علينا أن نتذكر أنه سَيخلُف ندبة لن تنجلي
اللهم هون علينا آلام الفقد.. اللهم أجبر كسر قلوبنا والهمها القدرة على الصبر
أبى الحبيب..لي في غيابك قصة وجعٌ لا تنتهي، رحمك الله وأسكنك فسيح جناته مع الشُهداء والصديقين والصَالحين وحسُن أولئك رفيقاً.

هَل حقًا هِي آخر الأحزان؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى