مني النمر تكتب: لحظات فارقة ….

في اللحظات التي يتغير فيها المشهد المصري بسرعة تفوق قدرة الناس على الاستيعاب ، أشعر أننا نعيش زمناً يختبر وعي المجتمع وهويته في آن واحد …

ليست الأزمة فقط في وجود أعداد كبيرة من الوافدين أو اللاجئين ، فمصر عبر تاريخها الطويل كانت أرضا تستقبل وتؤوي وتحنو .

لكن ما يقلقني حقا هو ذلك الخلل الذي بدأ يتشكل في إحساس المواطن بقيمته داخل وطنه ، ذلك الشعور الذي يعد أخطر من أي أزمة اقتصادية وأعمق من أي خلاف سياسي …
حين يشعر الإنسان بأن بيته لم يعد بيته ، وأن الغريب أصبح أقرب إلى الامتياز منه ، هنا تبدأ الأزمة الحقيقية …
وأنا أراقب ما يجري اليوم ، لا يسعني إلا أن أتذكر فصلا قديما في التاريخ المصري ، ذلك الفصل الذي دخل فيه الهكسوس إلى البلاد دخول الجائعين الهاربين من القحط ، كتجار يسعون إلى لقمة العيش وموطئ قدم …

لم يدخلوا مصر جيوشا ، بل دخلوا ضعفاء يتلمسون الأمان و الاشباع ، ثم شيئا فشيئا تحول وجودهم إلى قوة ، والتجارة إلى نفوذ ، والنفوذ إلى حكم ، حتى وجد المصري نفسه مرة واحدة خادما على أرضه ، وغريبا في بيته ، وانشطرت بلاده إلى شمال تحكمه قوة وافدة وجنوب يقاوم في عزلة …

كان ذلك درسا قاسيا في كيف يمكن لبلد قوي أن تهتز هويته ، نعم … حين يُفقد التوازن بين الضيف والمضيف …
وليس التاريخ بعيدا عن الحاضر كما يظن البعض .
فقد تكرر المشهد مرة أخرى في عصور لاحقة ، حين استولى كبار الأغنياء ـ من شوام وأتراك وأجانب ـ على مقدرات البلاد ، بينما ظل المواطن البسيط أجيرا عند هذه الطبقة المتحكمة .

تكرر النموذج ذاته …
اقتصاد يذهب لغير أهله ، و حكومة تبتعد عن الشعب ، وبلد يشعر فيه المصري أنه آخر الصف ، وأن غيره ـ مهما كان جنسه أو أصله ـ أقرب إلى السلطة و القوة منه …
واليوم ، يتساءل المواطن الذي أثقلته الأزمات وضاقت عليه الحياة : كيف لدولة يهاجر شبابها بحثا عن رزق كريم ، وتعاني من انفجار سكاني وضغوط اقتصادية خانقة ، أن تستقبل هذا الكم الهائل من الأجانب من كل حدب وصوب …!!؟
كيف تُسهل لهم الإقامة ، و تُفتح أمامهم المشاريع ، ويمنح بعضهم حق التملك و التجنيس ، بينما يواجه المصري نفسه صعوبة في إيجاد فرصة عمل ، أو في الحصول على سكن يليق بإنسانيته ، أو في تأمين مستقبل أبنائه …؟
هذا المواطن لم يعد يفهم فالرسائل متضاربة ، والواقع محزن …

يشعر أحيانا وكأن الحكومة تفضل عليه الضيف ، وكأن أرضه باتت مساحة مفتوحة لكل من يملك المال ، بينما هو لا يجد ما يمنحه أمان أو شعورا بالانتماء .

هناك من يتحدث عن “استثمارات”، لكن المصري البسيط لا يرى استثمارا ينعكس على حياته ، بل يرى ارتفاعا في الأسعار ، ونبرة استعلاء بدأت تظهر لدى بعض الوافدين في تعاملهم اليومي ، وهذا ما يؤلمه أكثر و يؤذيه اكثر من أى شيء آخر …
ليس الأمر كراهية أو رفضا للغريب ، فالمصري بطبيعته ابن حضارة علمت العالم معنى الضيافة والكرم .
لكن الضيافة شيء ، وذوبان الهوية شيء آخر تماما …!!

المصري يريد أن يفهم: هل حكومته معه أم ضده …؟
هل القرارات تتخذ من أجله أم على حسابه ؟

لماذا يشعر بأن التاريخ يعود ليكرر نفسه ، وأن طبقة جديدة تتشكل ، بينما يزداد هو تعبا و فقرا و ضياعا ؟
وسط هذا المشهد المربك ، أرى أننا بحاجة إلى كلمة واضحة وقرار حاسم يطمئن الناس ، يعيد إليهم اليقين الذي فقدوه والثقة التي تزعزعت .

المواطن يريد أن يحس بقيمته في بلده ، أن يرى إجراءات تحفظ حقه ، وتحمي هويته ، وتضع حدا لأي تجاوز أو استعلاء .
يريد أن يسمع صوتا رشيدا ينحاز إليه ، يشعره أن الغد لن يكون خطرا على أبنائه ، وأن وطنه لن يصبح ملكا لمن يدفع أكثر .

إن مصر التي قاومت الهكسوس قديما ، وقاومت كل محاولات الاستيلاء على هويتها عبر القرون ، قادرة اليوم أيضا على أن تحمي نفسها ، شرط أن نستيقظ مبكرا ، وأن نقرأ التاريخ ، لنتجنب إعادة كتابته مرة أخرى بحذافيره …

نثق في الرئيس السيسي و لم نخذله …
و نعلم أنه لن يخذلنا …
ف النوايا الحسنة فقط وحدها لا تكفي …

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى