محمد مطر يكتب: رجل القش
تعرفه بمجرد رؤيته أو ذكر اسمه، وهو بالقطع أروع ما قدمه الفلاح المصري كدليل وشهادة على نبوغه الفكري قبل الزراعي، وهو أحد أروع الأشياء الهلامية التي عبرت لنا أيضًا عن دهاء الفلاح المصري بشكل لم يتخيله أحد.
إنه “رجل القش”، أو “خيال المآتة”، وقد صنعه الفلاح وأراد أن يتحايل به على الطيور التي تهلك حرثه، إلا أننا لو تخطينا مسماه ظاهريًا، وذهبنا إلى ما وراء صنعه، وفلسفة وجوده، يخبرك بما لا يدع مجالًا للشك أن قيمة الأشياء ليست في ذاتها، بل تكمن قيمتها في ذلك الشعور الذي تثيره داخلنا.
إذ ليس بالضرورة أننا نعرف الأشياء، أو أننا حتى ندركها على حقيقتها، إن كانت الحسية أو جوهرها، بل نحن حين نصفها غالبًا نصف ما تثيره فينا، لذلك احكامنا ليست مطلقة، وقد تكون مجرد أوهام تسكن عقولنا، وليست واقعًا حقيقيًا.
فالطيور لا ترى رجل القش على حقيقته، بل كما تتصوره ولا تشك ولو لمرة واحدة فيما تعتقد، لذلك يخوفها الإنسان به، ذلك الإنسان نفسه يوجد داخله جيوش من رجال القش، ومع ذلك لا يفعل شيئًا إلا ما تفعله الطيور.
الطيور التي تملك الشجاعة وتطير في الظلام، تكتشف بأن “رجل القش” مجرد وهم ترسخ داخلها كحقيقة، ولكنها لا تستطيع إقناع بقية الطيور التي لا تطير إلا في النهار بذلك.
كذلك العقول التي تملك شجاعة التفكير عندما يسود الظلام، والمجازفة عندما يسود الخوف، تصفها الأكثرية بالجنون.
عندما يفكك الإنسان عالمه الداخلي أفكاره، رغباته، وعيه، أحكامه، تصوراته، يجدها مجرد بصمات الآخرين عليه، ليولد العالم بداخله كصورة من تلك البصمات…
الحُرية في هذا العالم هي الشجاعة، الشجاعة في نقد الذات و الأفكار، لكي يتحرر الإنسان من خوفه ويتجاوز نفسه التي صنعها الآخرون…
وإلى لقاء إن قدر الله لنا البقاء…