مدحت محي الدين يكتب : الترند
في سنة 1979م تم إنتاج فيلم “و لا عزاء للسيدات” بطولة سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، و الفنان الراحل عزت العلايلي و الجميل جميل راتب، و الفنانة نعيمة وصفي و سعاد نصر، الفيلم من إخراج الأستاذ هنري بركات. يحكي هذا الفيلم القيم الرائع عن سيدة متعلمة من طبقة متوسطة تدعى “راوية” كانت حياتها مستقرة إلى حد كبير؛ متزوجة من مهندس تحبه و تدعمه و تسهر على راحته دائما و لديهم ابنة عمرها حوالي 7 سنوات، والديها على قيد الحياة و يملكون عمارة يحصلون منها على دخل محترم، لديها خالة مقربين منها و من ابنتها، علاقتها هادئة و على مستوى راقي مع الجميع.
في يوم من ذات الأيام فوجئت السيدة “راوية” بكل شيء ينقلب رأسا على عقب؛ زوجها طلقها ليتزوج من فتاة أصغر سنا منها و من عائلة ثرية، توفي والداها بحادث سيارة، فجأة و بلا أي مقدمات وجدت نفسها المسئولة الوحيدة عن تربية ابنتها و مطلوب منها أخذ قرارات تخصها و ابنتها فيما يتعلق بالسكن و المعيشة دون السماح لخالتها أو لأي فرد آخر من العائلة في التدخل في شئونها، فكان أول قرار هو التنازل عن أي قضايا تتعلق بطليقها لتحل أمور النفقة و خلافه بشكل ودي عن طريق المحامين، أما ثاني قرار فأخذته بعد ثلاث سنوات من طلاقها و هو البحث عن عمل تلتهي به عن الأحداث المؤلمة التي زعزعت استقرار حياتها، و هنا أسدت إليها إحدى صديقاتها خدمة بأن طلبت من زوجها الذي يعمل بإحدى المؤسسات الصحفية الكبرى بأن يتوسط لها لتعمل معهم بالمؤسسة، و قد كان و تم قبول “راوية” للعمل بالأرشيف.
شعرت “راوية” في البداية بالحماس و السعادة العارمة و سرعان ما اندمجت مع الأجواء الجديدة و تغلبت على الصدمات التي تعرضت لها، و لكنها لفتت نظر رئيس مجلس إدارة المؤسسة، و لاحظت ذلك و لفت نظرها هو أيضا و حاز على فضولها و اهتمامها بالتعرف على ماضيه و عليه لذلك لم تبتعد عندما تقدم للتعرف عليها و الحديث معها، ثم تطورت الأمور إلى أن فكر في الزواج منها بعدما تأكد من حسن خلقها و حسن السير و السلوك، و لكن لسوء حظها حدثت مشاكل بين طليقها و زوجته الفاتنة الشقية أفقدت طليقها عقله و حكمه على الأمور فقرر تطليق زوجته و العودة إلى “راوية”! و لكن “راوية” رفضت بشدة، رفض “راوية” و فقدان الطليق لعمله و زوجته أفقدوه توازنه تماما و صور له عقله أن “راوية” تستحق القتل على جرائم لم ترتكبها، و بالفعل تربص لها أمام مقر عملها و عندما خرجت في ميعاد إنصراف الموظفين أطلق عليها الرصاص على مرأى و مسمع من الجميع بالشارع حتى قام أحد المصورين بالمؤسسة بالإسراع بتصوير “راوية” بعدما تلقت الرصاصة! ليس هذا فقط بل قام بنشر الخبر بالجريدة صفحة أولى بالصورة و كتب في الخبر أن زوج قام بإطلاق الرصاص على زوجته فلانة لشكه بسوء سلوكها!
عندما قرأ رئيس مجلس الإدارة الخبر بالجريدة صدم و انفعل و استنكر نشر الخبر بالجريدة معللا ذلك بأن هذه إساءة لسمعة الجريدة كون “راوية” إحدى العاملات بها، و عندما أفاقت “راوية” بالمستشفى حاولت بكل الطرق التواصل معه لتشرح له موقفها و أنها بريئة و مظلومة، و لكنه أغلق عليها كل السبل، حتى أن خالتها و ابنة خالتها و كل الأقارب و الأصدقاء و المعارف صدقوا الخبر المنشور بالجريدة! الوحيد الذي صدقها هو صديق رئيس مجلس الإدارة المقرب، عندما حدثته بالهاتف و طلبت منه أن يخبر صديقه بأنها بريئة ذهب إليه بالفعل و أبلغه الرسالة، و عندما فوجئ برد فعل صديقه دافع عنها و أخبره بأنها سيدة محترمة و لا يمكن أن يصدر عنها تصرفات مثل التي ذكرت بالجريدة. ظلت “راوية” في موضع اتهام من الجميع إلى أن قامت النيابة أثناء التحقيق مع طليقها بتبرئتها بعد ثبوت جنون طليقها و إحالته إلى مستشفى الأمراض العقلية، بعد نشر الخبر الجديد بالجريدة علم الجميع أن “راوية” بريئة، و بالرغم من ذلك ابتعد عنها الجميع و أولهم رئيس مجلس الإدارة الذي أصر على التمسك برأيه بعدم الزواج منها خوفا من “الشوشرة” التي حدثت، نار الشائعات حولت حياتها لجحيم و جعلتها منبوذة و مرفوضة حتى تكذيب الشائعات لم يرد لها سمعتها الطيبة حتى أنه بين الناس لم يدو نفس الدوي الذي دوت بها الإشاعات. هذا الفيلم القيم صنع ليحذر الناس و المجتمع من الإنسياق وراء الشائعات و لكن يا ترى هل أخذ المجتمع بالتحذير؟
نعود لعام 2022م لنجيب على السؤال و نقول: لا لم يأخذ المجتمع بالتحذير، بل طور الأسلوب و أصبح مطاردا بلعنة “الترند”. ماذا تعني كلمة “ترند”؟ هي كلمة مأخوذة عن اللغة الإنجليزية و تعني “شائع” أو “اتجاه” و جرى استخدام هذه الكلمة لوصف حالة خبر أو قصة يتم تفجيرها على مواقع التواصل الاجتماعي، فتجد آلاف التفاعلات و التعليقات على الخبر. هل اقتصر الأمر عند هذا الحد؟ لاااااااااا عزيزي القارئ بل للأسف أصبحت هناك منافسة بين الناس لدخول الترند وصلت حد افتعال بعضهم الأخبار و تأليف الأكاذيب للفت الأنظار ظنا من البعض أن هذه أسرع وسيلة للشهرة و ربما دخول مجال التمثيل أو الظهور ببعض البرامج على القنوات الفضائية.
الرغبة المحمومة في الظهور و لفت الأنظار و دخول الترند بالتأكيد أدت لمساوئ عديدة منها؛ انتشار الشائعات، فقدان المصداقية، إثارة البلبلة و الخلافات و الفضائح، انتشار مواقع الصحافة الصفراء، مبالغة البعض بقيامهم بتأليف المواقف للفت الأنظار، تضييع الوقت في متابعة الهراء،……إلخ.
قديما كان التقدم للعمل بالإذاعة و التلفزيون في منتهى الصعوبة لأنك كمتقدم كان لابد أن تكون مطابق لمعايير صارمة كإتقان قواعد اللغة العربية، التمتع باللباقة و حسن المظهر و الرقي، الخضوع لاختبارات عديدة،….إلخ، صعوبات مشابهة بالنسبة للفنان إذا رغب في التمثيل، أو مطرب أراد إيصال جمال صوته للناس، أما الآن فما عليك عزيزي القارئ سوى فتح كاميرا الهاتف المحمول و رفع فيديو لك على مواقع التواصل الاجتماعي و أنت تلعب دور المذيع، تغني بغض النظر عن إن كان صوتك جميلا أم لا، تمثل مقطعا من فيلم “البؤساء”، ترقص حتى و يبتلى المشاهدون بهذا المشهد المقزز، لقد أصبحت الشهرة و دخول الترند أسهل من عمل عصير الليمون بالنعناع؛ ابتلاء و سقط فيه المجتمع بل العالم كله….ماهذا؟ أسمع صوت أصدقائي بغرفة المعيشة و قد علت أصواتهم! يا ترى في ماذا يتناقشون؟! أوووووف ياليتني ماسمعت فهم يتناقشون في ترند اليوم!! أستأذنك عزيزي القارئ مضطر للذهاب إليهم لسماع ماذا حدث.