د. يسرا محمد سلامة تكتب: سيرة ومسيرة شيخ المؤرخين العرب الراحل الأستاذ الدكتور محمد محمود السروجي
منذ إنشاء جامعة الإسكندرية والقائمون على أمر الدراسات التاريخية فيها يبدون اهتمامًا خاصًا بدول البحر المتوسط بصفة عامة والدول العربية المُطلعة على شواطئه بصفة خاصة؛ لاسيما وأنّ تلك الدول العربية قد تعرضت لمغامرات استعمارية من قِبل الدول الأوروبية التي هبّ كُتابها ومؤرخوها يبررون احتلال بلادهم التي أُلقيت على عاتقها مهمة إدخال الحضارة الغربية إلى تلك الأقطار، فجانبوا بذلك الحقيقة وأخطأهم التوفيق، ولهذا لم ينظر هؤلاء الكُتاب إلى الحركات الوطنية التي قامت في البلاد العربية؛ لتحريرها من قبضة الاستعمار الغربي نظرة حق وإنصاف.
لذا كان على المؤرخين العرب أنْ يتصدوا لهؤلاء الكُتاب؛ إظهارًا لوجه الحقيقة، وإنصافًا للشعوب العربية التي لم تترك طريقًا واحدًا لم تسلكه لاستخلاص حقها في الحياة الحرة الكريمة، وتحريرًا للتاريخ العربي من احتكار الأقلام الغربية التي لم تكن في كل الأوقات فوق مستوى الشبهات تحقيقًا للأهداف الاستعمارية للدول التي ينتمون إليها.
وقد حظيت تونس باهتمام كُتاب الغرب إلى حدٍ كبير، لكن الكتابات الجادة التي تعتمد على الوثائق كانت قليلة، وأنّ أول مؤرخ عربي تناول تونس في السنوات التي سبقت الحماية الفرنسية من 1878 – 1881 هو المرحوم الأستاذ الدكتور محمد مصطفى صفوت أستاذ التاريخ الحديث بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، في رسالته للدكتوراه وهي: Tunis and the Great Powers 1878 – 1881
كتاب “العلاقات التونسية الفرنسية من الحماية إلى الاستقلال” من القطع المتوسط، يقع في 260 صفحة “تقريبًا”، نشرته المكتبة الوطنية ببنغازي عام 1975م، وكان وقتها العلّامة الجليل يعمل أستاذًا للتاريخ الحديث والمعاصر بالجامعة الليبية، ، وقد يظن البعض من عنوان الكتاب أنّ سيادته يُناقش فيه القضايا السياسية فقط – والتي احتلت المشهد آنذاك – لكن الحقيقة غير ذلك، فمنهج أستاذي الجليل دائمًا ما يعتمد على التدقيق والتحليل؛ لربط الأحداث ببعضها بشكلٍ يُفسر ماهية الأسباب وصولاً للنتائج، وقد استخدم – كعادته – الوثائق وكتابات المجاهدين وخُطبهم في الدراسة؛ لذا فهذا العمل يُعد مرجعًا مُهمًا لتونس في تلك الفترة؛ لأنه يتضمن الناحية الاقتصادية والاجتماعية، والثقافية، جنبًا إلى جنب مع الناحية السياسية، وبذلك استطاع سيادته تحقيق المعادلة الصعبة في كتابة العمل التاريخي.
رأى الأستاذ الدكتور محمد محمود السروجي، ضرورة الحديث عن العامل الجغرافي بجانب التاريخي – وهو في ذلك مُحق؛ لتوضيح موقع تونس المتميز، والذي جعلها مطمع للاحتلال والغزو، فقد تحدث سيادته عن التضاريس، والمناخ، والأنهار التي تمر في الأراضي التونسية، والثروة الزراعية، والثروة المعدنية، والسواحل، والصناعة، وقام بذكر أهم المدن التونسية بشيء من التفصيل، ثم ذهب إلى التعداد السكاني، وممّ تكونت فئات المجتمع في فترة الدراسة، وتحدث كذلك عن أصل سكان تونس، وتركيبتهم العرقية، وأكثر المناطق الآهلة بالسكان، كما ركزّ مؤرخنا الجليل على موقع تونس من الناحية التاريخية، والذي جعل من مدنها وموانيها أهمية تاريخية فوق أهميتها الجغرافية.
ولأنّ لا يمكن لأي باحث دراسة التاريخ العربي مُنعزلاً عن تاريخ الدولة العثمانية، فكلاهما مُرتبط ارتباطًا وثيقًا لا يمكن فَصله، فقد تحدث العالم الجليل في مقدمته التاريخية عن بداية تاريخ تونس الحديث، والذي ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالفتح العثماني، حين استولى العثمانيون بقيادة سنّان باشا على تونس نهائيًا عام 1574م، بعد صراعٍ طويل مع الاسبان والحفصيين، وفي أول الأمر لم تكن تونس ولاية مُستقلة بل تم إلحاقها بالجزائر، ثم انفصلت وأصبحت ولاية تابعة للباب العالي مباشرةً، فـ حكم الدايات (الذي تميزت به دول شمال أفريقيا بشكلٍ عام).
جاء مُؤلَفه هذا في ثمانية فصول، الفصل الأول تحدث عن حالة تونس في القرن التاسع عشر، وهي إرهاصة مهمة لما ستترتب عليه الأوضاع فيما بعد، ثم الفصل الثاني عن علاقات الدول العظمى بتونس، ولم يغفل فيه الأستاذ الدكتور محمد محمود السروجي الحديث عن الدولة العثمانية ومدى سيطرتها على تونس قبل البدء في حديثه عن إنجلترا، وفرنسا، وإيطاليا – والتي كان لها علاقة قوية بتونس تمثلت في معاهدة وُقعت عام 1868م، بين الباي وإيطاليا أصبح للرعايا الإيطاليين بموجبها حق الملكية العقارية وحق استغلال جبل الرصاص، وسُجلت في هذه المعاهدة كل الامتيازات التي نالتها أي دولة أوروبية في تونس، فالفصل الثالث الذي حمل عنوان “امتداد النفوذ الفرنسي إلى تونس”، أسهب فيه بشيءٍ من التفصيل العلاقات بين الدول التي لديها مصالح مباشرة في تونس، وفي الفصل الرابع “مؤتمر برلين وأثره على مصير تونس”، استعرض سيادته في هذا الفصل مشروع الحماية الفرنسية على تونس، وأثر المؤتمر على سياسة إيطاليا إزاء تونس، والصراع الفرنسي الإيطالي في تونس، وبالطبع فإنّ هذا الفصل استاق معلوماته من رسالة أستاذه د. مصطفى صفوت في الدكتوراه، ومن كتابه مؤتمر برلين وأثره في البلاد العربية، ليأتي الفصل الخامس الذي يُعد البداية الفعلية لعنوان الكتاب “احتلال فرنسا لتونس”، تحدث فيه سيادته عن الصعوبات التي واجهت فرنسا قبل احتلالها لتونس، من خطر الجامعة الإسلامية، إلى صدامها مع إنجلترا، والتهديدات الذي شهدتها من إيطاليا، أما الفصل السادس فكان بعنوان “أثر فتح تونس في البحر المتوسط”، وهو فصل له ضرورة حتمية لمعرفة موقف الدول الكبرى والدولة العثمانية من هذا الغزو، إلى جانب باقي دول البحر المتوسط، ثم اختتم سيادته الفصل بموقف فرنسا بعد إعلان الحماية، ثم الفصل السابع الذي كان تسلسلًا منطقيًا لما سبقه وكان عن “الحماية الفرنسية على تونس”، الذي أكدّ فيه سيادته أنّ نظام الحماية وتعديلاتها لم توضع دفعة واحدة في وقتٍ واحد، وإنما الحماية الفرنسية على تونس نظام تطور وتعدل منذ سنة 1881م، إلى أنْ أُعلن استقلال البلاد، ويأتي الفصل الثامن (فصل الختام) الذي عَنونه بـ “الحركة القومية التونسية”، وهو فصل استعرض فيه سيادته النهضة الفكرية والحِراك السياسي الذي شهدته البلاد، فقام بتقسيم تطور الحركة الوطنية إلى ثلاثة مراحل: المرحلة الأولى وتشمل الفترة من إعلان الحماية وحتى قيام الحرب العالمية الأولى، المرحلة الثانية وتتضمن كفاح الشعب التونسي بين الحربين العالميتين، المرحلة الثالثة وتبدأ من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال.
قام الأستاذ محمد شفيق غربال بتأسيس مدرسة للتاريخ الحديث في جامعة فؤاد الأول (القاهرة) اعتمدت في توجهها على دراسته دراسة بعيدة بشكلٍ كبير عن التاريخ السياسي، وتهتم على وجه الخصوص بدراسة فترة حكم محمد علي باشا، أمّا في الإسكندرية فكانت هناك مدرسة أخرى أسسها الأستاذ الدكتور محمد مصطفى صفوت – تلميذ شفيق غربال – بعد عودته من إنجلترا، في جامعة فاروق الأول (الإسكندرية)، أخذت على عاتقها دراسة الوطن العربي وأفريقيا دراسة تعتمد في المقام الأول على الوثائق، وقد كانت في ذلك لها السبق، وكان من رواد هذه المدرسة الراحلين الكبيرين الأستاذ الدكتور فاروق عثمان أباظة، والأستاذ الدكتور سعد زغلول عبد ربه.
أمّا شيخ المؤرخين العرب الأستاذ الدكتور محمد محمود السروجي، والذي كان تلميذًا نجيبًا لدكتور صفوت، ومُلازمًا له منذ تتلمذه على يديه في مرحلة الليسانس، وبعدها أثناء إشرافه عليه في مرحلتيّ الماجستير والدكتوراه – التي حصل عليها عام 1955م، فقد تأثر تأثرًا شديدًا بأستاذه، خاصةً بعد أنْ وافته المنية في سن صغير (49 عامًا فقط)، وكان لتلك الوفاة أكبر الأثر في نهجه لخطوات أستاذه، من دراسة الموضوعات التاريخية المختلفة دراسة وثائقية، وتوجيه أحد طلابه (د. سعد زغلول عبد ربه) لدراسة اللغة الألمانية؛ حتى يتمكن من الاطلاع على الوثائق الألمانية التي تخص موضوعه، لا الوثائق الإنجليزية فقط، وبذلك يُصبح مُلمًا بالمادة محل الدراسة إلمامًا تامًا، وهو نهج درج عليه د. السروجي نفسه، عندما قام باختيار اللغة العثمانية كمادة لدراستها؛ ليتمكن بعدها من قراءة الوثائق المتعلقة بموضوعات التاريخ الحديث والموجودة بدار الوثائق، إذ أنه أراد الحصول على المعلومة من مصدرها الصحيح.
مثلما هو الحال مع أستاذه محمد مصطفى صفوت، فسيادته عندما قام بمؤلفه العظيم – والذي يعتبره د. السروجي واحدًا من أعظم ما كتب د. صفوت في حياته كمؤرخ – الاحتلال الإنجليزي لمصر وموقف الدول الكبرى إزاءه، اعتمد فيه على الوثائق السياسية للحكومات، من وثائق وزارة الخارجية الإنجليزية في دار المحفوظات البريطانية بلندن (F.O)، والوثائق الإنجليزية المنشورة في مجموعات الكتب الزرق، والوثائق الفرنسية السياسية من سنة 1870 – 1914، التي نشرتها الحكومة الفرنسية عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، والوثائق الألمانية السياسية 1870 – 1914التي نشرتها الحكومة الألمانية عقب الحرب العالمية الأولى.
ونرى سيرًا على النهج في أولى مؤلفات د. السروجي التي تم نشرها وهو كتاب “العلاقات بين مصر وأثيوبيا في القرن التاسع عشر”، والذي نُشر عام 1961م، وكان الإهداء فيه لأستاذه د. مصطفى صفوت فقال: “إلى ذكرى أستاذي الجليل الدكتور محمد مصطفى صفوت.. علامة تقدير وإجلال وعرفان بالجميل من ابن وتلميذ”، فقد كان هذا الكتاب في الأصل مَبحثًا في رسالة سيادته للدكتوراه عن “الجيش المصري في القرن التاسع عشر”، وفي رأيي أنه أراد تخليد ذكراه في السير على نهجه وتوجهه الفكري بالعمل على دراسة الشأن الأفريقي دراسة جادة، تقوم على التوثيق فحول مبحثه في رسالته إلى كتاب.
واستمر ذلك الأمر، إلى أنْ جاء مؤلفه عن تونس ليُثبت فيه بالدليل القاطع مدى تأثره الواضح بفكر أستاذه، و”صديقه” – حسب وصف الأستاذ شفيق غربال في مقدمة كتابه عن أثيوبيا ومصر – فكتاب “العلاقات التونسية الفرنسية من الحماية إلى الاستقلال”، يُعد خطوة مهمة على طريق المنهج الذي انتهجه د. مصطفى صفوت، كما أنه من الأعمال الرائدة التي تحدثت عن تونس باللغة العربية أثناء فترة الحماية الفرنسية عليها حتى نالت استقلالها، فقد ذكر سيادته في تقديم الكتاب أنه: “قد استفاد من رسالته هذه فائدة كبيرة في الفترة الأولى من الكتاب؛ لأنها – في نظري – أوفى وأوضح ما كُتب عن تلك المدة”.
إذن يمكننا القول، أنّ كتاب العلاقات التونسية الفرنسية من الحماية إلى الاستقلال، يُعد امتدادًا لرسالة الأستاذ الدكتور محمد مصطفى صفوت للدكتوراه عن تونس قبل الاحتلال، وهو بذلك قد سدّ ثغرة مُهمة لم يُمهل أستاذه العمر لسدها، عندما قام بكتابة مُؤلَفه هذا.
وختامًا، فإنّ اهتمام مؤرخنا القدير بالاستعمار وما ترتب عليه من تبعات على الشعوب، لم يقتصر على هذا الكتاب وحده، بل قدّم بحثًا في مجلة التاريخ العربي – جمعية المؤرخين المغاربة عام 1996م، من ثمانِ عشرة صفحة بعنوان “أثر الاستعمار في تشويه تاريخ الأمة العربية والإسلامية”، تناول فيه تاريخ الحركة الاستعمارية، والأساليب والدوافع التي تذرعت بها الدول الكبرى لتبرير استعمارها، ثم موقف المؤرخين الأوروبيين من الدولة العثمانية، والحملة الفرنسية على الجزائر عام 1830م، وأخيرًا مصر في ظل الاحتلال البريطاني.
إنّ منهج الأستاذ الدكتور محمد محمود السروجي الذي يجمع في طياته خلاصة فكر وتجربة أساتذة كبار (الأستاذ محمد شفيق غربال، الأستاذ الدكتور أحمد عزت عبدالكريم، الأستاذ الدكتور محمد مصطفى صفوت)، إضافةً إلى خبرة علمية رصينة اكتسبها من التحقيق والتدقيق في الكثير من الوثائق الخاصة بموضوعاتٍ شتى، ومصادر عديدة أجنبية وعربية، واطلاعه على فكر الغرب من خلال المجلات التي كانت تَصدر – وكان يَمده بها في بداياته الأستاذ شفيق غربال؛ ليُحافظ على تجدد مخزونه العلمي بكل ماهو جديد في مجال دراسته، وقد كان ذلك عاملًا مُؤثرًا في تكوين شخصيته الفكرية، فكانت إسهاماته إضافة عظيمة لمكتبة التاريخ الحديث والمعاصر، لازالت حتى اليوم مَرجعًا مُهمًا لطلبة الدراسات العليا والباحثين في شتّى أرجاء الوطن العربي، رحم الله فقيد العلم، وجعل ما قدمه في سبيله شفيعًا له، ويُجازيه عنّا خيرًا كثيرًا، ويرزقه الفردوس الأعلى إنه على ذلك قدير.