أحمد القاضى يكتب: نوستالجيا الـزمن الجميل “بدل طُفولة”
“الحنين يكذب ولا يتعب من الكذب؛ لأنه يكذب بصدق، فمهنة الحنين هي الكذب” محمود درويش
كثيراً من الناس ما يشعر بالحنين إلى الماضي أكثر من قَبوله لواقعِه الحاضر، ليس كُرهاً في الحاضر، ولكن لأن شعورنا بالسعادة كان أكبر في سنون حياتنا الآوائل. وغالباً في مواسم الأعياد والمناسبات ما نشعُر بالاشتياق إلى أوقات حلوة مضت، أوقات الزمن الجميل؛ نشتاق مثلاً إلى طفولتنا والغناء ابتهاجًا بالأعياد، أو إلى الوجبات والولائم التي تشاركناها مع الأحباب الذين فارقونا أو ألعابنا صغاراً مع زملاء الدراسة أو جيران الحي أو المنطقة، إن أمتع سنوات حياتنا هي التي مرت في فترات الطفولة حيث الإنطلاق والحيوية واللامسئولية فقط الإستمتاع بكل لحظة من لحظات عُمرنا وقتها كان إختيار الرفيق بالقلب لا بالعقل وكانت العلاقات لا يشوبها المصالح وكانت الأغاني هادئة وليست صاخبة، فأزعم أن غالب أجيالنا ومن سبقونا قد عاشوا طفولة أفضل مما تحياه الأجيال الحالية حيث تحيا حياة خالية من الدسم، أجيال منزوعة البركة، قليلة الحركة، فالتكنولوجيا قد تكون نقمة في بعض الأحيان، تُفرق اكثر مما تُقرب خصوصاً مع أطفال التكنولوجيا والسوشيال ميديا.
فمن الطبيعى ان يصرف لهم بـــ”دل طفولة” لأنهم لم يستمتعوا بطفولية حياتهم كما عاشها من سبقوهم من أجيال مهما تفلسفنا على أنفسنا وحاولنا إيهامها بأن لديهم ما هو أفضل من سابقيهم من ألعاب ووسائل إتصال ومميزات أُخرى مُتعددة ولكني أرى أن الماضي كان أكثر ترابطاً ومودة على الرغم من بساطة ألعاب الماضي فقد تعلمنا منها الكثير حتى في خلافاتنا وشجارنا كنا أكثر رُقياً ومن اليسير أن نتصافى سريعاً دون تجريح أو تصعيد مُبالغ فيه.
ومن تلك المقارنة البائسة بين ما قد مضى وما هو قائم حالياً مع خوفنا مما هو آت، يبرهن لنا ذلك بأن إرتباطنا بنوستالجيا الزمن الماضي الجميل يُعد أمراً طبيعياً نُدفع إليه دفعاً.
النوستالجيا: مُصطلح يوناني الأصل يُستخدم لوصف الحنين إلى الماضي، وقد تم وصفها على أنها حالة مَرضية أو شكل من أشكال الإكتئاب في بدايات الحُقبة الحديثة ثم أصبحت بعد ذلك موضوعاً ذا أهمية بالغة في فترة الرومانتيكية. في الغالب النُوستالجيا هي حُب شديد للعصور الماضية بشخصياتها وأحداثها.
إن هناك الكثير من الطُرق التي يشعر الناس من خلالها بالحنين للماضي؛ ومنها النظر إلى الصور أو طهي وجبات معينة أو مشاركة قصص الذكريات أو عزف الموسيقى التي كنت تحبها.
وقد درس العلماء مؤخرًا الشعور بالحنين للماضي وما فيه من سعادة يشوبها الألم، ووجدوا أن لهذا الشعور وظيفة إيجابية احياناً؛ إذ إنه يحسن الحالة المزاجية وقت إستدرار تلك الذكريات ولكن من الصعوبة والألم أن تتذكر بعض ذكريات طفولتك وأنت وحيداً دون مشاركتها مع الأقران والأقرباء وقتها تَشعر بإحساس مؤلم يعتصر قلبك حُزناً على فِراق عزيزٍ غالي أو فقدان صحة وإنتهاء علاقة أو حينما تمر ببيت تربيت وترعرعت فيه وهجرته أو مقر عمل تعلمت فيه الكثير وتركته، وغالباً ما تتذكر تلك الأحداث بعدما تبلغ قدراً من العمر يُناسب كم الذكريات التي مُلئ بها قلبك قبل عقلك، وتعلق بها وجدانك قبل ان تفقدها آذانك.
وقد يُعزى ذلك إلى أننا نبحث دائما عن سرد متكامل لحياتنا وقد نختلق قصصاً لملء الفراغات والحصول على صورة متكاملة.
إن الانسان لديه دائما حالة من الهوس للقديم، دائما ينظر الى الماضي بنزع من الفخر والاعتزاز، حتى انه يصل الى حالة دائمة من حالات الحنين المفرط التي قد تُسئ إلى حاضره أو تخيفه أحيانا من مستقبله مقارنة بالماضي الهادئ غالباً، فالماضي بالنسبة لنا مُريح حيث الفن الجميل والأغاني الممتعة ورائحة الطعام المشوقة رغم بساطتها، أخلاق البشر كانت راقية، القيم والمبادئ كانت أكثر سمواً، وهذا واقع حقيقي للأسف.
وقد نجد لذلك تفسيراً في حبنا لأفلام الأبيض والأسود حتى وأن أعيدت على مسامعنا الف مرة وسعادتنا بزياراتنا لقصور الأزمنة الوسطى حتى وإن تزاورناها مائة مرة وكذا إنبهارنا بتاريخ ملوك الفراعنة وبناياتهم اللامعقولة حتى وإن توقفنا أمام عظمتها عشرات المرات، إنه ذلك الماضي السحيق العريق الرقيق نعشقه ونبتغيه حتى وإن لم يكن لنا فيه صديق ولا حتى رفيق.
وفي تلك اللحظات تحديداً نتوقف ملياً نتأمل إشارات ضبط الوقت وهي تتراجع عقاربها إلى الوراء بسرعة البرق كي تُلامس عبق زمنٍ جميلٍ مرَ وراح، وأضحى ذكرى تملؤها جراح، فأيقظ حنيناً فصرخ وصاح، أين من كانوا يوقظونا كُل صباح؟!، وأين من كُنا نشعر معهم بسكينة وإرتياح؟!، هل هَرِمنا فجأةً؟ أم قَلَدّنا العَجز الوشاح!، بلى..سُرقت منا أعمارنا واُختُرقَت أحلامنا بإجتياح، تمهلي يا أياماً وشهوراً وسنون تجري بسرعة الرياح، يا ليت فجرَنا قد طال وبقى دِيكُنا صدّاح، يا ليته كان طائراً عابراً وإن كان مكسور الجناح، آجلاً أم عاجلاً سنُصبح ذكرى وتهدئ قُلوبنا وترتاح.
الحنين وجع عشوائي لا يستأذن أحد، وتبقى الذكريات الجميلة مؤلمة رغم جمالها..
إنتهى.. ولم ننتهي بعد
انحني امام كلماتك….. احتراما وتقديرا
لاختيارك الرائع لمقالاتك
تحياتي لك….. اسراء سليمان