السيد الجمل يكتب: “غرباء تحت سقف واحد”

في إحدى الأمسيات الهادئة، كانت ” أم ” تجلس في غرفة المعيشة تقرأ كتاباً، فجأة اهتز هاتفها معلناً وصول رسالة “واتساب”. نظرت إلى الشاشة لتجد أن المرسل هو ابنها البالغ من العمر 17 عاماً. فتحت الرسالة بلهفة لتجد سؤاًلاً مقتضباً: “أمي، هل العشاء جاهز؟”.
لم تكن الصدمة في السؤال، بل في الحقيقة الموجعة غرفة ابنها تبعد عن مكان جلوسها مترين فقط، وبابه كان مفتوحاً ، لقد استسهل الشاب النقر على الشاشة بدلاً من المشي بضع خطوات وسماع صوت والدته. هذه اللحظة العابرة اختصرت مأساة تعيشها ملايين الأسر اليوم.. مأساة “الغربة داخل المنزل”.
لم يعد المنزل ذلك الملاذ الذي تضج جدرانه بالحكايا والمشاركات اليومية ، لقد تحول ببطء مخيف بعد سيطرة الهواتف الذكية إلى ما يشبه “الفندق” أو “الاستراحة” مكان نعود إليه لنأكل وننام ونشحن أجهزتنا، بينما عقولنا ومشاعرنا تسكن في مكان آخر تماماً في “الستوري” الخاصة بصديق، أو في فيديو تيك توك، أو في تعليق لشخص غريب لم نقابله يوماً.
لقد استبدلنا “دفء اللمة” بـ “برودة الشاشة”. أصبحنا نعرف تفاصيل حياة المشاهير ونتابع رحلاتهم لحظة بلحظة، بينما نجهل أبسط أمور ديننا .
والمفارقة المؤلمة هي أننا نعيش في أكثر العصور اتصالاً في التاريخ البشري، لكننا الأكثر وحدة وانعزالاً. نعتقد أننا نتواصل مع العالم، بينما نحن نفقد التواصل مع “عالمنا الحقيقي”هؤلاء الذين يشاركوننا الهواء والطعام والمصير.
تقول الدراسات النفسية الحديثة إن ظاهرة “الخرس العائلي” تتفاقم، حيث يقضي الأفراد ساعات طويلة صامتين جسدياً، صاخبين رقمياً والنتيجة؟ آباء لا يتقنون لغة أبنائهم، وأزواج يكتشفون بعد فوات الأوان أنهم تحولوا إلى مجرد “شركاء سكن” يتقاسمون دفع الفواتير لا تبادل المشاعر، وكثرت على إثرها حالات الطلاق بل والقتل أحيانا كما شاهدنا خلال شهر ونصف فقط فى محافظة المنوفية ثلاث حالات قتل بين الأزواج وهذه الحالات تدق ناقوس الخطر حيث لم يعد الدفء الأسرى كما كان ومشاعر الحب تقلصت بسبب التباعد التكنولوجى .
نعيش بين جدران صامتة وذكريات تتلاشى فخطورة ظاهرة “غرباء تحت سقف واحد” لا تكمن فقط في الصمت، بل في انقراض الذكريات المشتركة. تلك الضحكات العفوية على موقف حدث أثناء الغداء، والنقاشات الساخنة حول فيلم تشاهدونه معاً، والنظرات التي تغني عن الكلام.. كلها بدأت تتلاشى لصالح العزلة الفردية خلف الأبواب المغلقة والشاشات المضيئة.
قبل أن ينقطع “الإرسال” الأخير لا يدعو هذا المقال إلى تحطيم الهواتف والعودة للعصر الحجري، بل يدعو لترشيد “الاستهلاك الرقمي” لصالح “الاستثمار العاطفي”.
لنحاول – ولو لساعة واحدة يومياً – أن نعلن “هدنة” مع التكنولوجيا. أن نضع الهواتف جانباً وننظر في وجوه بعضنا البعض كما كنا نفعل قديماً. أن نسأل بصدق: “كيف كان يومك؟” وننتظر الإجابة باهتمام حقيقي.
العائلة ليست مجرد اسم في بطاقة الهوية، والمنزل ليس مجرد جدران. فلا تسمحوا لشبكة “الواي فاي” أن تكون أقوى من روابط الدم، ولا تدعوا أنفسكم تتحولون إلى غرباء.. يجمعكم العنوان، وتفرقكم الحياة، للاسف نرى اليوم مشاهد التفكك الأسري أصبح كالنار فى الهشيم ، نتيجة البعد الاجتماعى وتمسكنا بالهواتف والتى قامت ببناء جدار وحصن منيع بين كل أفراد الأسرة الواحدة أصبح كل منا يحيا فى عالمه الخاص .
واترك لك الإجابة عزيزى القارئ ، هل أنت راضٍ عن استبدالنا “الدفء البشري” بـ “اللايكات” الباردة ؟



