نوفل البرادعي يكتب: “غزّة أولاً”.. بين تدويل وتأويل وتقسيم
كان واضحًا، منذ اللحظة الأولى لصدور القرار الأميركي في مجلس الأمن حول غزة، أنّ العالم لم يكن أمام قرار عادي، ولا أمام مبادرة تهدف إلى إدارة وقف إطلاق النار أو تحسين الشروط الإنسانية. كان المشهد أكبر من ذلك بكثير: محاولة دولية كاملة لإعادة تركيب غزة، أقرب ما تكون إلى “صكّ وصاية دولية”، تُدار تحت سقف الأمم المتحدة ولكن بمحرّك واحد هو الولايات المتحدة، وبإشراف مباشر من دونالد ترامب الذي عاد ليضع بصمته على أدق تفاصيل الملف الفلسطيني. للمرة الأولى منذ عام 1947، يظهر على الطاولة تدخل دولي بهذا الحجم، لا كوسيط، بل كسلطة عليا تُؤسّس مجلس إدارة دوليًا للقطاع، وتُرفقه بقوة دولية تنتشر على الأرض، وتمسك عمليًا بكل مفاصل الأمن والإدارة.
هذا القرار، بكل ما يتضمنه، لم يكن ليبقى في إطار القانون الدولي أو الإجراءات الأممية. فقد خرجت منه فورًا ارتدادات سياسية عميقة. حماس أعلنت رفضها الكامل، ليس من باب العناد السياسي، بل لأن القرار ذاته يعيد تعريف وجودها، ويجردها من عناصر القوة التي بنت عليها سلطتها طوال سنوات. أما إسرائيل، فاختارت مرة أخرى تلك المنطقة الرمادية التي تجيد الوقوف فيها: التحفّظ. لم ترفض القرار، لكنها لم ترحب به أيضًا. فهي ترى في نزع سلاح غزة خطوة مطلوبة، لكنها تدرك أن التدويل خطر استراتيجي لا يقلّ عن تهديد السلاح نفسه. لأن ما يُفرض على غزة اليوم قد يُطرح غدًا على الضفة الغربية، وقد يصبح نموذجًا دوليًا تُعاد من خلاله فتح ملفات ظنّت أنها دفنتها منذ عقود، من 242 إلى 338، مرورًا بكل حديث عن الدولة الفلسطينية.
وسط هذه الصورة، تسللت في القرار جملة صغيرة لكنها ثقيلة: “مسار موثوق لقيام دولة فلسطينية مشروط بإصلاحات السلطة الفلسطينية”. هي الجملة نفسها التي وضعها ترامب في خطته السابقة التي لم تنفذ وسميت “صفقة القرن ” حيث تُصبح الدولة نتيجة اختبار لا نتيجة حق. إدراج الجملة لم يكن نابعًا من قناعة أميركية بحلّ الدولتين، بل جاء لأسباب تتعلق بالرغبة في توسيع الاتفاقيات الإبراهيمية. لكن التجربة الطويلة تؤكد أن الإشارة شيء، والتطبيق شيء آخر. فقرارات مجلس الأمن المتعلقة بفلسطين، من 242 و 388إلى خارطة الطريق، بقيت قائمة على الورق. لم تُلغها إسرائيل، ولم تنفذها الولايات المتحدة، وتركت الفلسطينيين في مساحة بين القانون والواقع لا تشبه أي مساحة أخرى في العالم.
لكن في حال فشل تطبيق القرار على الأرض، تخطط واشنطن لتقسيم القطاع إلى منطقة خضراء تحتلها اسرائيل، حالياً: تشهد اعادة اعمار ونشر قوة دولية وإنشاء جسم حاكم بديل عن حماس. ومنطقة حمراء ، تسيطر عليها حماس غربي القطاع ، تبقى تحت الركام والعقاب والحصار وفيها معظم سكان القطاع !
المشهد الحقيقي ليس في نصّ القرار، بل في مصدره. فالقرار لم يُكتب في نيويورك، بل صيغ في واشنطن. لم يُمرَّر بقوة المجلس، بل بقوة القطب الواحد الذي يعرف أن هذه المؤسسة الدولية، التي بُنيت قبل ثمانية عقود، باتت تعمل اليوم كجهاز مُلحَق بالسياسة الأميركية كما يقول كثيرون . فمن أنهى الحرب الأخيرة على غزة لم يكن اعتراضًا أمميًا او قراراً اسرائيلياً ، بل رغبة أميركية. ومن دفع نحو صفقة تبادل الأسرى رغم معارضة أركان اليمين كان البيت الأبيض. ومن يستطيع، لو أراد، فرض حل سياسي على نتنياهو، هو نفسه الذي يملك مفاتيح التمويل والسلاح والشرعية. لكنّ الولايات المتحدة، رغم قوتها وقدرتها ، لا تريد فرض الحل. وإسرائيل تعرف ذلك، ولذلك بدأت، بهدوء شديد، إعداد خطط استراتيجية لتقليل تبعيتها الاقتصادية والعسكرية لواشنطن، خوفًا من مستقبل قد لا تملك فيه الإدارة الأميركية نفس الرغبة أو نفس الأولوية.
في النهاية، ما خرج من مجلس الأمن ليس قرارًا لوقف الحرب، بل إعلان لمرحلة جديدة في الصراع. غزة تدخل الآن نظامًا شبيهًا بالوصاية الدولية او انتداب كما يحلو للبعض ان يقول ، بنسخة القرن الواحد والعشرين، ومسلّحًا بغطاء دولي واسع وبقوة أميركية مباشرة. وما يجري هناك لن يبقى هناك، لأن النموذج الذي يُبنى اليوم، إن استقر، قد يتمدد نحو الضفة الغربية، ويعيد القضية الفلسطينية كلها إلى الطاولة، ليس من باب المفاوضات، بل من باب الإدارة الدولية. وفي قلب هذا التحول الهائل، يبقى الفلسطيني العادي جداً ، كما كان دائمًا في المعادلات الكبرى ، آخر من يُسأل… وأول من يدفع الثمن!



