المخرج دكتور شريف جابر يكتب: حوار مع معلمي المبدع

حوار بين زمنين

لم يكن لقائي ب د مصطفى محمود لقاءً عابرا مع مؤلفٍ قرأت له وانتهيت منه.
كان لقاءً روحيا طويلًا، امتدّ من صفحات الكتب إلى أعماق الوعي.
عرفته أول مرة وأنا في بداياتي، وكان اسمه بالنسبة إليّ بابا سريا إلى أسئلةٍ لم أجرؤ يومًا أن أطرحها.
كان يكتب عن الله والعقل، عن الحياة والموت، عن العلم الذي لا يكتفي بالمجهر، بل يغوص الي الاعماق البشرية
كنت أقرأه بشغفٍ يشبه الخوف؛ كأن كلماته تُمسكني من يدي وتقودني نحو منطقةٍ لا أملك فيها إلا أن أرى.

كنت أشعر وأنا أقرأه أنه لا يكتب فحسب، بل يفتح جرحا في العقل، ليخرج منه النور.
وحين كبرت، أدركت أن تأثيره فيّ لم يكن معرفيا فقط، بل إنسانيا أيضًا.
كان الرجل نموذجًا نادرا للفكر المتّزن بين العقل والروح،
طبيبا يداوي الجسد بالعلم، ثم يداوي الروح بالحكمة.
تكوّنت شخصيتي على مهلٍ، كأنها تنسج خيوطها من طريقه:
شغف بالبحث، ميل إلى التأمل، رفض للتقليد، وحبٌّ عميقٌ للحقيقة.

وكلما ازدادت معرفتي به، شعرت أن شخص بداخلي بدأ في النضوج .
هو درس الطب، وأنا درست الإخراج، لكنه درس الجسد ليكتشف الروح، وأنا درست الصورة بمعانيها الخفية .
هو كتب قصصًا ومسرحيات، وأنا كتبت مجموعاتٍ قصصية نُشرت في المعارض الثقافية و المكتبات الإلكترونية.
هو عاشق للموسيقى، وأنا كذلك وجدنا فيها لغة ومعنى للوجود .
هو رأى الفن عبادةً، وأنا رأيته طريقًا للخلاص.
بل حتى في الحلم الأخير، نحن متشابهان:
هو ترك مسجدًا وصرحًا طبيًا يشهد له في الدنيا والآخرة،
وأنا أرجو أن أترك أثرًا يشبه ذلك — عملًا إنسانيًا يمدّ يد العون والمساعدة للاخرين .

أحيانًا كنت أراه يجلس أمامي، في مكتبه الذي تخيلته،
ينظر إليّ بعينيه الذكيتين عيون الأطباء حين يكتشفون الحقيقة قبل أن يتكلموا.
وفي تلك اللحظة، يبدأ بيننا الحوار.
ليس حوارا في الزمان، بل في الوعي — كأن روحينا تتلاقيان بين سطرٍ وسطر.

أنا:
يا دكتور مصطفى، كنتَ تقول دائمًا إن الطريق إلى الإيمان لا يبدأ من المسجد، بل من السؤال.
أما أنا، فوجدت الله من طريق الرضا لا من طريق الشكّ.
هل كل طريقٍ إلى الله لا بد أن يمرّ بالنار؟

د.مصطفى محمود:
يا عزيزي، النور لا يولد إلا من النار.
كنتُ أبحث عن الله في الذرّة والمجرة لأنني لم أجده في نفسي بعد.
كان الإيمان بالنسبة لي رحلة عقلٍ متعبة،
كنت أريد يقينًا يقنعني قبل أن يطمئن قلبي.
لكنني حين وجدت الله، وجدت معه السكون الذي هربت منه طويلًا.

أنا:
أما أنا، فقد بدأت من السكون نفسه.
لم أحتج أن أبحث كثيرًا، لأن الإيمان كان في فطرتي .
كنت أشعر أن الرضا هو الطريق الأقصر،
أن السكينة ليست نتيجة بحث، بل حالة فهمٍ للقدر.

مصطفى محمود:
ذلك جميل، ولكن لا تنسَ يا عزيزي، أن كل طمأنينة لا بد أن تكون وُلدت من سؤال.
حتى من لم يشكّ في وجود الله، شكّ في فهمه له.
الأسئلة ضرورية، لأنها الطريق إلى النضج.
الحيرة ليست ضعفًا، بل دليلُ حياة.

أنا
ربما…
لكن بعض الأرواح، يا دكتور، تولد وهي تعرف الطريق دون أن تضلّه.
هناك من يتعلّم بالوجع، وهناك من يتعلّم بالبصيرة.
وأنا من الفريق الثاني — تعلّمت بالهدوء، لا بالانفجار.

ابتسم وقال:
كلانا محقّ. أنت وأنا.
كل إنسانٍ يسلك طريقا مختلفا ليصل إلى ذات الحقيقة.
أنا جئت من الشكّ إلى الإيمان،
وأنت جئت من الفهم إلى الرضا،
لكننا التقينا في منتصف الطريق،
حيث لا صراع بين العقل والقلب،
بل وحدةٌ بينهما.

بعد لحظة صمت، سألته عن الفن، فابتسم.

أنا:
كنتَ تقول دائمًا إن الفنّ عبادة.
هل ما زلتَ تراه كذلك؟

د مصطفى محمود:
بل أكثر من ذلك.
الفنّ عندي هو لغة الروح،
محاولة الإنسان أن يصنع ما يوازي خلق الله.
حين كتبت مسرحياتي وأفلامي، لم أكتب لأُبهر الجمهور،
بل لأقول شيئًا عن الإنسان: ضعفه، حلمه، قلقه أمام المجهول.
كنت أرى في كل مشهدٍ مرآةً للروح البشرية.

أنا:
وأنا كذلك.
حين أُخرج عملاً، أشعر أني أجري عمليةً جراحية في الوعي.
أحاول أن أفتح صدور الشخصيات لأرى ما في داخلها من ألمٍ أو حنين.
أريد أن أقول إن الفنّ ليس زينة، بل طريقة لفهم الإنسان.
ربما لهذا أحببتك — لأنك كنتَ فنانا متخفيا في جسد عالم.

د مصطفى محمود:
وأنت، فنانٌ يحمل روح الباحث.
كلانا يحاول أن يرى البعد الثالث من الامر،
أن يصغي لما لا يُقال،
أن يصوّر ما لا يُرى.

تحدثنا عن الموسيقى.
هو كان عاشقًا للكمان والناي والعود، وأنا وجدت نفسي في نغمٍ يشبه التنفّس.

أنا:
الموسيقى عندي لغة الصلاة،
أحيانًا أسمع مقطوعة فأشعر أني في عالم من الروحانيات.

د مصطفى محمود:
وهذا أجمل ما في الفنّ: أنه يقودك إلى الإيمان دون أن يقول كلمة واحدة.
اللحن الصادق صلاةٌ بلا سجود.

ثم انتقلنا إلى الحديث عن المستقبل،
عن النبوءات التي كتبها منذ عقود، وكنت أراها تتحقق أمامي.

أنا:
كنتَ تتحدث عن زمنٍ يفقد الإنسان فيه روحه.
عن حضارةٍ تزداد علما وتفقد إنسانيتها.
عن بشرٍ يملكون التقنية لكنهم لا يعرفون أنفسهم.
وها نحن نعيش هذا تماما.

د مصطفى محمود:
كنت أرى المرض قبل أن يظهر،
فالطبيب يعرف العلامات الأولى.
الإنسان الحديث ظنّ أنه سيغني عن الله بالعلم،
لكن العلم بلا ضميرٍ سيفٌ بلا غمد.
كنت أرى في كل آلةٍ تُخترع خطوةً نحو الوحدة،
وفي كل تقدمٍ ماديّ خطوةً إلى الوراء في الروح.
لقد صدقتَ حين قلت إن النبوءات تحققت،
لكن صدقها لا يفرحني، بل يؤلمني.

أنا:
وأنا أشاركك هذا الألم.
الفن اليوم أصبح تجارة، والفكر سلعة،
والناس تلهث خلف المظاهر أكثر من المعاني.
نعيش الان زمنٍ بلا روح.

د مصطفى محمود:
وهذا هو دورك أنت ومن يشبهك:
أن تُعيدوا للإنسان مرآته،
أن تجعلوا من الفنّ علاجًا، لا ترفيها.
كل لوحة، كل مشهد، كل قصة يمكن أن تكون دعاءً حين تُكتب بصدق.

ثم تحدثنا عن العمل الخيري، فبدت في صوته نغمة حنين.

أنا:
لقد تركتَ لنا مسجدك وصرحك الطبي العظيم،
عملًا يذكّرك الناس به كل يوم.
هل كان ذلك تتويجا لفكرك؟

دمصطفى محمود:
لم يكن تتويجا، بل توبة.
كنتُ أخشى أن أموت وكلماتي لا تُطعم جائعا ولا تشفي مريضا.
أردت أن يكون للفكر جسدٌ من حجر،
أن تتحول الفكرة إلى فعلٍ ملموس.
الإيمان عمل، لا شعور.
وهذا ما أتمنى أن تفعله أنت أيضًا.

أنا:
وهذا بالضبط ما أحلم به.
أن أترك شيئًا بعدي — لا كتابًا فقط، بل أثرًا.
مؤسسة فنية أو إنسانية تجمع الفكر بالعمل،
كما جمعتَ أنت بين العلم والرحمة.

د مصطفى محمود:
افعلها يا بني، ولا تنتظر الكمال.
النية الصادقة أعظم من أي بناء.
المسجد الحقيقي هو القلب الذي يخدم الناس.

طال الحديث بيننا حتى نسيتُ أننا من زمنين مختلفين.
كنت أشعر أنني أتحدث مع ظلي،
أو مع نفسي في مرآةٍ أقدم من عمري.
وفي لحظة صمتٍ عميقة، نظر إليّ وقال:

د مصطفى محمود:
أتدري ما أشد ما يجمعنا؟
أننا لم نبحث عن المجد، بل عن المعنى.
العقل وحده يضلّ صاحبه،
والقلب وحده يُغرقه،
لكن حين يتصافحان…
يولد الإنسان الكامل.

سكتّ طويلاً.
كنت أريد أن أقول له إنني مدين له بكل ما كتبتُ،
لكن الكلمات خانتني.
فاكتفيت بالصمت، وهو فهم.

وقبل أن يختفي صوته في زوايا الذاكرة،
همس كأنه يسلّمني وصيته الأخيرة:

> اعمل بعقلك، واحبّ بقلبك، وكن صادقًا مع نفسك.
> فالله لا يسأل كم كتبت، بل كم أخلصت.»

خرجت من هذا الحوار وقد تغيّر فيّ شيء لا يُرى.
شعرت أنني لم أعد وحدي في طريقي،
أن روحه تمشي معي كلما أمسكت قلما أو وجّهت كاميرا نحو وجهٍ يبحث عن الضوء.
صار الحوار بيننا جزءًا من حياتي،
وصار اسمه في داخلي لا ك معلم أو رمز،
بل كـ مرشدٍ أبديٍّ إلى النور.

في النهاية
كما بدأت الحوار مع معلمي ساطلب منه لقاء اخر فهو معنا بروحه وكلماته وعمله الطيب .
رحم الله د. مصطفى محمود.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى