د. حماد الرمحي يكتب: هل تدعم الحكومة المصرية قطاع الصحافة والإعلام؟
الحلقة الرابعة من دراسة أحوال الصحفيين
في الحلقات السابقة من هذه الدراسة الميدانية عن أحوال الصحافة وأجور الصحفيين في مصر، رسمنا خريطة قاسية لوضع المهنة؛ إذ رأينا كيف انزلقت دخول آلاف الصحفيين تحت خطّ الفقر، وكيف يساوي ما يتقاضاه الصحفي الأمريكي في شهر واحد تقريبًا ما يحصل عليه نظيره المصري في عدة سنوات كاملة.
وفي الحلقة الأخيرة خرجنا إلى تجارب الدول المتقدمة، فوجدنا أن هذه الدول لا تنظر إلى الإعلام بوصفه عبئًا على الموازنة، بل استثمارًا في «الأمن المعرفي» للمجتمع، دعمٌ مالي مباشر بمئات الملايين من الدولارات، وإعفاءات ضريبية وجمركية، وبيئة تشريعية واستثمارية حاضنة، وبرامج خاصة لحماية الصحافة المحلية والوظائف الصحفية وتطوير المهارات المهنية.
وفي حلقة اليوم يبرز السؤال الأكثر إلحاحًا في السياق المصري: هل تدعم الحكومة المصرية قطاع الصحافة والإعلام؟
الإجابة الحقيقية: نعم تدعم الحكومة المصرية قطاع الإعلام، وهناك مليارات تُضخ سنويًّا في هذا القطاع، لكنّها «نعم» مثقلة بعلامات الاستفهام؛ لأن طريقة تصميم هذا الدعم وتوزيعه وإنفاقه لا تعبّر عن رؤية تنموية أو استثمارية بقدر ما تعكس إدارةَ «أزمةٍ مزمنة» ومحاولاتٍ متكرّرة لإبقاء سفينة مثقلة بالديون والخسائر طافيةً فوق سطح الماء.
الأرقام الرسمية المخصصة لعملية الدعم تكشف الخلل البنيوي بوضوح، فالدعم المباشر المخصَّص للهيئة الوطنية للصحافة في الموازنة العامة للدولة يتراوح في السنوات الأخيرة بين نحو 331 و482 مليون جنيه سنويًّا، بينما يقفز باب «الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية» وحده في موازنة 2023/2024 إلى نحو 552.5 مليون جنيه بعد أن كان 442.4 مليونًا في 2022/2023، في حين لا تتجاوز مخصصات الأجور المباشرة للعاملين بالهيئة نفسها 24.36 مليون جنيه فقط.
وفي العام المالي 2022/2023 عزّزت وزارة المالية بند «معالجة مشكلات المؤسسات الصحفية» بمبلغ إضافي قدره 724 مليون جنيه فوق الموازنة الأصلية، ثم جاء مشروع موازنة 2023/2024 ليخصّص 150 مليون جنيه فقط لهذا البند، قبل أن تنتهي مناقشات لجنة الخطة والموازنة إلى رفعه إلى 910 ملايين جنيه حتى تتمكن المؤسسات القومية من سداد التزاماتها الأساسية.
هذه الأرقام تكشف بوضوح أن جانبًا كبيرًا من الدعم يذهب إلى مسارين لا ثالث لهما وهما، إما مصروفات تشغيلية لضمان استمرار دورة العمل اليومية، أو سداد التزامات متراكمة وسدّ فجوات عاجلة، لا إلى تمويل خطة إصلاح حقيقية أو تحديث هيكلي للمؤسسات أو تحسين مباشر لأجور الصحفيين وظروف عملهم، أو ضخ دماء جديدة في شرايين المؤسسات القومية التي شاخت واصابها الوهن بعد وقف التعيينات فيها لأكثر من عقد كامل.
إننا أمام دعم عقيم لا يٌنجب «إبداعاً»، دعم يطفئ الحرائق ولا يبني بيتًا جديدًا؛ دعم «مُسكّن» وليس «علاجاً» لمرض مزمن ينهش في جسد مهنة، يؤثر تدهور صحتها في صحة الأمن القومي للبلاد، دعم تقف في مواجهته جبال من الديون والخسائر؛ حيث بلغت ديون المؤسسات الصحفية القومية نحو 13.9 مليار جنيه حتى أغسطس 2020 وفق بيانات الهيئة الوطنية للصحافة، بينما قدّرها تقرير وزارة الإعلام في 2020 بنحو 22 مليار جنيه، في حين سجّلت الهيئة الوطنية للإعلام خسائر متراكمة تقارب 71.5 مليار جنيه حتى نهاية العام المالي 2020/2021.
معنى ذلك أن مليارات الدعم لا تُضَخّ في شرايين «النمو والتطوير» بل تُنفق أساسًا على خدمة ديون تاريخية وسدّ عجز بين الإيرادات والمصروفات، في مؤسسات لم تخضع بعدُ لجراحة إصلاح شاملة في الهياكل والإدارة ونماذج الأعمال.
يضاف إلى ذلك اختلال واضح في خريطة توزيع الدعم؛ فالإعلام الحكومي المرئي، متمثلًا في مبنى ماسبيرو والهيئة الوطنية للإعلام، يلتهم النصيب الأكبر من كعكة التمويل العام، بينما تتقاسم الصحف القومية ما تبقّى، وتُحرَم الصحف الحزبية والمستقلة بشكل كامل، من كافة اشكال الدعم، سواء كان في صورة مخصصات مالية مباشرة، أو إعفاءات ضريبية واضحة، أو حملات إعلانية حكومية موزعة بعدالة وشفافية.
هل تدعم الدولة المصرية الصحفيين؟
الإجابة حاسمة وواضحة: «نعم».. ولكن!!
نعم، هناك دعمٌ حكوميٌّ للصحفيين تحت بند «بدل التدريب والتكنولوجيا» يُصرف شهريًّا، وقد وُلد في الأصل كأداةٍ نبيلةٍ لتطوير المهنة، وتحديث مهارات الصحفيين، وربطهم بالعصر الرقمي، وحمايتهم من هشاشة سوق العمل، وكان تأسيسه وفلسفته أن يكون مستقلاً عن أجور الصحفيين، وبعيداً عن أيدي المسؤولين في الصحف القومية والحزبية والمستقلة، وألا يكون مكملاً لرواتب الصحفيين، وأن يكون منحة من الدولة لتدريب وتطوير الصحفيين.
إلا أنّ هذا البدل، حين غاب معه تطبيق قانون العمل وقانون الصحافة، وتراخت يدُ الدولة في مراقبة التزام المؤسسات الصحفية بأجور الصحفيين والحدّ الأدنى للأجور، تحوّل من وسيلةٍ للنهوض بالمهنة إلى أداةٍ لتدميرها؛ وبوّابةٍ خلفيةٍ للاسترزاق. وبات «البدل» سيفًا مُسلَّطًا على رقاب الصحفيين المهنيين، ووسيلةً لابتزازهم وإجبارهم على العمل بلا راتبٍ مقابل استمرار صرف «البدل»، بينما تحوّل في المقابل إلى غنيمةٍ لتجّار وسماسرة «البدل»!
وتحت مظلة هذا الغياب الرقابي، ابتكرت مؤسساتٌ صحفية حِيَلًا فَجّة للاستيلاء على البدل كليًا أو جزئيًا؛ فبعض المؤسسات القومية قامت بإدراج البدل ضمن هيكل الأجور لتضخيم «شكل» مرتب الصحفي على الورق، والالتفاف على الحدّ الأدنى للأجور، وجعلت البدل «مُكمّلًا» للحدّ الأدنى بدلًا من أن يكون إضافةً مستقلةً للتطوير.
وليس هذا فحسب، بل إن بعض المؤسسات فرضت على «البدل» رسومًا تُستقطع بكل «بجاحة» من قوت الصحفيين لصالح المؤسسة؛ وهي ممارسة لا يمكن وصفها إلا بأنها خطأ مالي وإداري وقانوني جسيم، لأن البدل منحةٌ خارج نطاق الأجور، ولا يجوز تحميله على بند المرتبات أو احتسابه جزءًا من الراتب المستحق.
وفي بعض الصحف المستقلة والحزبية، بلغ العبث ذروته بتحويل «البدل» إلى راتبٍ بديلٍ كامل؛ فحجبت الأجور بشكل كامل أو فُرِّغته من مضمونها، واكتفت تلك المؤسسات بصرف مرتباتٍ شكليةٍ تتراوح بين 1000 و3000 جنيه.
والأسوأ أن مؤسساتٍ أخرى دفعت صحفيين للعمل بلا رواتب ولا تأمينات ولا مكافآت، مقابل استمرار صرف «البدل»؛ وكأن الصحفي مطلوبٌ منه أن يكتب ويُحقّق ويُخاطر، ثم يُكافأ على ذلك بالحدّ الأدنى من البقاء لا بالحدّ الأدنى من العدالة.
أكمل المقال في الرابط التالي:
https://www.facebook.com/share/p/1HB2f1MgLV/?mibextid=wwXIfr



