مني النمر تكتب: غزة … بين المراوغة … والحقيقة

بدا العالم في الأيام الأخيرة وكأنه يعيش حلقة جديدة من العبث السياسي …

فجاء ترامب يعلن عن الوصول لاتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وغزة ، ثم سرعان ما أعلن عن تعديل في بنود الاتفاق …
فجاءت خطة ترامب لإدارة غزة ، و كأنها محاولة لإيجاد مخرج للأزمة ، لكنها في حقيقتها أقرب إلى شهادة وفاة رسمية لدولة فلسطين …

البنود التي تم استبدالها و ما تسربت منها لم تحمل أي ضمانات حقيقية ، فما قدم إلى قادة الدول العربية شيء ما تم تعديله و تقديمه لحماس شيء آخر ، فلا لوقف لقتال ولا لانسحاب مرحلي ، بل بدت المسودة أشبه بترتيبات وقتية هدفها استرداد الرهائن والجثامين ، ونزع سلاح حماس ، وتدمير الأنفاق …

و تحويل غزة إلى كيان إداري واقتصادي هش تحت إشراف أمريكي غربي ، في نموذج يشبه هونج كونج مع بعض الاختلافات…

بهذا الشكل ، تصبح غزة مجرد إقليم تحت الانتداب الأمريكي ، لا يحمل أي سمة لدولة مستقلة ، ولا يحقق الحد الأدنى من مقررات الأمم المتحدة بشأن حل الدولتين …
و كأن سايكس ـ بيكو يعاد إنتاجه في نسخة جديدة بطلها هذه المرة دونالد ترامب …

حيث يراد فرض واقع سياسي لا علاقة له بحقوق الشعب الفلسطيني ، بل هو مجرد كمين سياسي لاستدراج العرب ، سواء بقبولهم أو رغماً عنهم …

فما جرى في السابع من أكتوبر لم يكن سوى مسرحية عبثية ، صممت بعناية لتكون مدخلاً لفرض واقع جديد …
فالمذبحة التي روجت لها إسرائيل إعلامياً أعطت الضوء الأخضر لعقاب جماعي ضد غزة ، ثم استخدمت كذريعة لطرح مشروع سياسي معد مسبقاً …

كل شيء بدا وكأنه مسرح كبير …
لكن بضحايا حقيقيون ، خلفها إخراج محسوب لتهيئة الأجواء لمخطط أكبر …
يليها الاعترافات التي صدرت عن دول أوروبية في الأمم المتحدة ، فبدت كأنها صحوة ضمير متأخرة ، لكنها في حقيقتها أقرب إلى تنويم مغناطيسي لشعوب هذه الدول ، ومحاولة إرضائها تحت ضغط جرائم الحرب التي لم يعد بالإمكان التستر عليها …
هذه الاعترافات الورقية لا تعني شيئاً على الأرض ما لم تترجم إلى فعل سياسي حقيقي ، وما لم يتم كسر جدار المناورات التي تجيدها إسرائيل والولايات المتحدة …

و السؤال الذي يفرض نفسه هنا …
هل نحن أمام مناورة متعمدة من نتنياهو وترامب لكسب المزيد من الوقت لإعادة ترتيب الأوراق …؟!!
أم أن المسألة أعمق من هذا ، و مرتبطة بعدم الوفاء بالوعود في زمن السياسة اللا اللاخلاقية ، سياسة البيزنس وشيطنة الحق و نصرة الباطل …؟
من يتابع خطوات نتنياهو يدرك جيداً أن الرجل لا يتحرك إلا وفي ذهنه مكسب سياسي أو ميداني …
فنجد أن الإعلان عن إتفاق ثم التراجع عنه لا يمكن أن يقرأ بمعزل عن الرغبة في كسب مساحة أوسع على الأرض أو تحقيق أهداف عسكرية قبل أن تفرض عليه أي تسوية …
أما ترامب ، فالمشهد بالنسبة له لا يخرج عن سياق المناورة السياسية ، التي اعتاد أن يخلط فيها بين لغة السوق والمزاد ولغة السياسة والدبلوماسية …

لكن الأهم من تحليل الأشخاص ، هو فهم ما الذي يدفع إسرائيل والولايات المتحدة إلى طرح مثل هذه المبادرات ثم الانسحاب منها …

هل تنبع هذه المبادرة من الاعتبارات الإنسانية التي يرفعها العالم كشعار ، أم من واقع مرير يواجهه الجيش الإسرائيلي بعد سنوات من الحرب ، إذ تآكلت قدراته القتالية وتراجعت جاهزيته بفعل الخسائر البشرية والمادية ، إلى جانب الضغط الاقتصادي الهائل الناتج عن استمرار العمليات ؟!! هذا كله بالتزامن مع الأزمة الاقتصادية المتفاقمة داخل الولايات المتحدة نفسها ، ما جعلها غير قادرة على تحمل أعباء حرب مفتوحة طويلة المدى ، وهو ما دفعها إلى البحث عن مخرج على شكل هدنة أو اتفاق مؤقت …

أم هو خوف من انفجار إقليمي أكبر قد يجر المنطقة كلها إلى مواجهة غير محسوبة ؟!!
جميعها تساؤلات مطروحة و بقوة …

في المقابل و في وسط كل هذا العبث ،
لا يمكن تجاهل دور مصر في كل هذه المشاهد و الأحداث ، في لحظة بدا فيها العالم ضعيفا و مترددا أمام عربدة الكيان المحتل في فلسطين ، كانت القاهرة ثابتة على موقفها ، و رفضت منذ البداية أي محاولة لتهجير الفلسطينيين قسراً من غزة ، وتمسكت بحل الدولتين و بالاعتراف بدولة فلسطين على حدود 1967…
هذه الرؤية لم تكن مجرد كلمات للاستهلاك الإعلامي ، بل موقف استراتيجي تحركت به مصر على كل المستويات …
لقد وقفت مصر في أشد لحظات الضعف العالمي ، عندما انحنى كثيرون أمام غطرسة نتنياهو وبجاحة ترامب …

حين تم الترويج لغزة كـ”ريفيرا الشرق” أو حتى التلويح بها كأنها “ولاية أميركية”، كانت مصر تقول بثبات: لا حل على حساب الشعب الفلسطيني ، ولا مستقبل لغزة دون أهلها …
هذا الثبات في الموقف لم يكن مجرد خطاب سياسي ، بل تعبير عن إدراك عميق أن أي حل يتجاوز الفلسطينيين هو صفقة فاشلة …

و قد أثبت الزمن أن رؤية مصر كانت الأصوب …
فلا حل يمكن أن يستمر دون الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة …
ولا اتفاق يمكن أن يصمد إذا كان قائماً على شروط تعجيزية ، كاشتراط تسليم حماس لسلاحها أو خروجها من غزة ، وهي شروط يعلم الجميع مسبقاً أنها لن تقبل ، وأن طرحها لا يعدو كونه وسيلة لنسف الاعتراف بدولة فلسطينية من الأساس …!!
من هنا يبقى السؤال قائماً …

إلى أي مدى يمكن أن يستمر هذا النمط من المراوغة ؟!!
التاريخ علمنا أن الشعوب قد تخدع لبعض الوقت ، لكنها لا تخدع للأبد … الفلسطيني الذي يعيش تحت القصف لا يعنيه كثيرا ما يقال في نيويورك أو باريس أو لندن ، ما يهمه هو أن يرى أفعالا توقف نزيف الدم وتحمي بيته وأرضه …

و كما قالتها مصر ، الحل الوحيد يبدأ من الإعتراف بالدولة الفلسطينية ، ومنح شعبها حقه المشروع في الحياة على أرضه ، بكرامة وعدل وأمان …
لكن …

هل يكفي الموقف المصري وحده ؟!! بالطبع لا …
المطلوب هو أن تتحول هذه الرؤية إلى موقف عربي ودولي جامع ، يفرض نفسه على طاولة التفاوض …
فالمراوغات الأميركية والإسرائيلية لن تتوقف ما لم تواجهها إرادة صلبة ، ووحدة موقف ، وإصرار على أن فلسطين قضية شعب ، وأمة كاملة ، وحق لا يسقط بالتقادم …

الجميع يرى أن المشهد السياسي اليوم يواجه أزمة أخلاقية قبل أن تكون أزمة موازين قوى …
العالم كله يتحدث عن السلام ، لكن حين يأتي وقت التنفيذ ، تقدم المصلحة على المبادئ ، ويضحى بحقوق الشعوب لصالح صفقات سياسية …
ومع ذلك …

مصر التي تمسكت برؤيتها رغم كل الضغوط أثبتت أن الموقف الثابت قد يكون أثمن من كل المناورات …

فهل العالم مستعد أن ينصت لصوت العقل والعدل ؟!!
أم سيواصل الانجرار وراء المراوغات والمسرحيات السياسية ؟!!

حتى ذلك الحين ، سيظل صوت مصر شاهدا على أن الرؤية الصحيحة لا تسقط بالزمن ، وأن الحق ، مهما طال الالتفاف حوله ، لا بد أن يجد طريقه …

لأن الشعوب لا تعيش بالكلام ، و الحقوق لا تسترد بالتصريحات …

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى