“المقابلة” بقلم/ وائل الريس

قصة قصيرة

جلس كريم على الكرسي الجلدي في زاوية غرفة الانتظار، يحدّق في الأرضية الرمادية التي لا تعكس شيئًا سوى برودة اللحظة. كانت الساعة تشير إلى الثالثة وخمس دقائق، والمقابلة في الثالثة والنصف. نصف ساعة من الانتظار بدت له كأنها دهر.

في يده اليمنى، أمسك ملفًا بلاستيكيًا يحتوي على سيرته الذاتية، وقد طواه مرارًا حتى اتخذ شكلًا غريبًا من القلق. تنفّس بعمق، ثم نظر حوله. رجلان آخران ينتظران أيضًا؛ أحدهما يعبث بهاتفه، والآخر يحدّق في السقف كمن يحاول استدعاء إجابة من السماء.

بدأت الأسئلة تتسلل إلى رأسه:

  • هل كنت واضحًا في رسالة التحفيز؟
  • هل سيرتي الذاتية قوية بما يكفي؟
  • ماذا لو سألوه عن نقاط ضعفه؟ هل يجيب بصدق؟ أم يختلق إجابة ذكية؟
  • هل القميص الأزرق كان اختيارًا موفقًا؟ أم الأبيض كان أفضل؟

كل سؤال جرّ خلفه سلسلة من الذكريات: مقابلة سابقة لم تسر كما أراد، وظيفة حلم بها ولم ينلها، نظرات والد زوجته حين قال له: “أنت قدها يا كريم”، ونظرات زوجته وهي تُعدّ له الإفطار صباحًا وتدعو له بصوت خافت.

بدأ قلبه ينبض بإيقاع غير منتظم، كأن كل دقة تحمل سؤالًا جديدًا. نظر إلى ساعته: عشر دقائق فقط مضت. عشر دقائق من الترقب، من محاولات التنفس العميق التي لا تُجدي، من أفكار تتزاحم في رأسه كأنها في سباق لا نهاية له.

تخيّل أن المقابلة انتهت، وأنه خرج منها بابتسامة واثقة، ثم تلقى اتصالًا بعد يومين فقط: “مبروك يا أستاذ كريم، تم قبولك.”

في تلك اللحظة، بدأ الحلم يتشكل في ذهنه كفيلم قصير:

  • اشترى حقيبة مدرسية جديدة لابنه، تلك التي تحمل صورة الديناصور الذي يحبّه.
  • أخبر زوجته أن بإمكانها أخيرًا ترك العمل المسائي.
  • دفع جزءًا من ديونه، وأعاد ترتيب ميزانية البيت.
  • اشترى طاولة صغيرة ليضع عليها جهاز كمبيوتر مستعمل، ليبدأ تعلم البرمجة كما حلم.
  • اتصل بوالدته وقال لها: “دعواتك ما راحتش هدر يا أمي.”

ثم عاد إلى الواقع، إلى الكرسي الجلدي البارد، إلى صوت عقارب الساعة، إلى الرجل المجاور الذي بدأ يتنهد بقلق.

تسللت إليه فكرة مزعجة: “ماذا لو لم أكن مناسبًا؟ ماذا لو لم أجب كما يجب؟ ماذا لو لم يروا فيّ ما أراه أنا في نفسي؟”

لكنه قاومها، وتذكّر تلك الليلة التي قضى فيها ساعات يُعدّ ملفه، يراجع كل كلمة، يختار كل عبارة بعناية. تذكّر كيف نهض بعد كل رفض، أقوى من قبل.

أغمض عينيه للحظة، وتخيّل نفسه داخل المكتب، يجيب بثقة، يبتسم، يشرح أفكاره، يُظهر شغفه.

ثم سمع اسمه يُنادى: “الأستاذ كريم؟ تفضل.”

وقف، هذه المرة بابتسامة حقيقية، كأن الحلم الذي نسجه للتو أعطاه دفعة من الداخل.

دخل غرفة المقابلة بخطوات محسوبة، كأن كل خطوة تحمل وزن حلمه. جلس أمام الموظف المسؤول، رجل في منتصف الأربعينات، يرتدي نظارة رفيعة، وعيناه لا تركزان على شيء محدد.

ابتسم كريم، وبدأ بعرض سيرته الذاتية، يتحدث عن خبراته، عن المشاريع التي شارك فيها، عن التحديات التي واجهها وتغلب عليها. كان يحاول أن يُظهر شغفه، أن يروي قصته المهنية كأنها ملحمة صغيرة من الاجتهاد والمثابرة.

لكن شيئًا ما لم يكن على ما يرام.

الموظف أمامه كان شاردًا، ينظر إلى نقطة غير مرئية خلف كريم، لا يدوّن شيئًا، لا يهز رأسه، لا يُبدي أي تفاعل. فقط صمت.

توقف كريم للحظة، ظن أنه ربما تجاوز الوقت أو قال شيئًا غير مناسب. لكن الموظف رفع يده ببطء وقال بصوت خافت: “استمر، من فضلك.”

كأن صوته خرج من خلف زجاج، وكأن كريم لم يكن يتحدث إليه بل إلى فراغ يتّسع خلفه.

بدأ يشعر بأنه يؤدي مشهدًا في مسرح بلا جمهور. ومع ذلك، تابع حديثه، يحاول أن يُبقي نبرة صوته واثقة، أن لا يُظهر ارتباكه.

في داخله، تساءل:

  • هل هذا اختبار؟
  • هل هو مشغول بأمر شخصي؟
  • هل المقابلة حُسمت قبل أن تبدأ؟

ثم، في لحظة خاطفة، التقت عيناه بعيني الموظف. كانت نظرة قصيرة، لكنها حملت شيئًا غريبًا—كأنها تقول: “أنا أراك، فقط لا تسألني لماذا لا أستطيع أن أكون حاضرًا.”

كريم لا يزال يتحدث، يحاول أن يشرح كيف استطاع في وظيفته السابقة أن يضاعف الإنتاجية رغم نقص الموارد، حين انفتح الباب فجأة.

دخل رجل قصير القامة، أصلع تمامًا، يسبق دخوله عبير عطر ثقيل، حاد، كأنه إعلان عن وجوده قبل أن يُرى. لم ينظر إلى أحد، لم يعتذر، لم يبتسم. كان يتحرك بسرعة، كأن كل ثانية من وقته تُحسب بالدقيقة.

مرّ بجانب كريم دون أن يلتفت، ثم قال للموظف المسؤول بصوت مقتضب: “لدينا اجتماع بعد عشر دقائق، خلّص بسرعة.”

ثم خرج كما دخل، تاركًا خلفه أثرًا من العطر، وارتباكًا في الهواء.

كريم شعر وكأن الأرض اهتزت تحت قدميه. هل هذا هو صاحب الشركة؟ هل هو من سيقرر مصيره؟ هل كان يعلم بوجوده أصلًا؟ هل المقابلة مجرد إجراء شكلي؟

نظر إلى الموظف المسؤول، الذي اكتفى بهزة رأس خفيفة، ثم قال: “أكمل، من فضلك.”

لكن كريم لم يكن كما كان قبل لحظات. الكلمات أصبحت أثقل، والثقة بدأت تتآكل. ومع ذلك، قاوم. استجمع ما تبقى من حماسه، وتابع الحديث، كأنما يتحدث إلى نفسه، أو إلى حلمه الذي لا يريد أن يفرّ منه.

في داخله، نسج سيناريوهات:

  • ماذا لو حصلت على الوظيفة، وأصبحت أتعامل يوميًا مع هذا الرجل؟
  • هل سأكون مجرد ترس في آلة لا تهتم بمن يديرها؟
  • هل يستحق الحلم هذا الثمن؟

لكن رغم كل ذلك، كان هناك شيء واحد لا يزال حيًا في قلبه: الأمل. ذلك الأمل الذي لا يُقهر، حتى حين يبدو أن كل شيء حوله لا يُبالي.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى