عروسة حلاوة
قصة قصيرة كتبها الإعلامي: طارق سليم

عم حسين يعشق الشاي والدخان ويري ان الحياة بدونهما مفعمة بالكابة وينقصها الكثيروالدخان أمره ميسور .فالتبغ بأنواعه يباع ويشتري.ولكن معضلته الدائمة تكمن في كيفية الحصول علي الشاي والسكر.
فالتموين ينتهي في نصف الشهر. وعليه ان يدبر أمره باقي الشهر.فلامجال لشراء الشاي والسكر.فهذا أمر مستحيل في عموم البلاد.ومن يتم ضبطه من التجار بالبيع يصنف كسارق ومتلاعب بأمن الدولة. ومصيره السجن لامحالة. وكان عم حسين ينجح احيانا في شراء الشاي من بعض بيوت القرية ممن لايشربون الشاي.ولكن تكمن المشكلة في السكر. فله استعمالات عديدة.
ولم يكن يشغله كثيرا طعامه التافه.ولكن مايشغل هو كيفية تحلية الشاي. فتارة يحلي الشاي بحبات الكرملة او العسل الأسود. ولكن الطعم دوما غير مستساغ.وهو لايقرب الشاي دون تحلية.والشيء الوحيد القريب من السكر هو حلاوة مولد النبي . فاخذ في محايلة طفله من أجل اخذ بعض القطع من حصانه الحلاوة. مع وعده اياه ان يشتري له في المولد القادم سفينة حلاوة.والسفينة حلم كل طفل.فهي كبيرة الحجم. ومزينة بالساري والاعلام .
ولايشتريها لطفله الا القادر.وفرح الطفل بالصفقة.ووافق علي تكسير حصانه. وتحلية الشاي به. وتلاشي الحصان في أيام معدودات. وبعدها حاول عم حسين ان ينال من العروسة الحلاوة الخاصة بطفلته..حتي وان كان رأسها فقط.مع وعده بصنع رأس قماشية محشوة بالقطن.ولكن الطفلة بكت رافضة المساس بعروستها.فهي تمثل لها الفرحة والبهجة.فهي تلهو بها في أصيل كل يوم أمام البيت.بل وقامت بصنع ثوب قماشي مزركش الألوان لعروستها بديلا عن الثوب الورقي الملون الذي تمزق.
وقامت أيضا بقص خصلة شعر من رأسها لتزين به عروستها. ودوما تتفاخر بين قريناتها بأن عروستها هي الباقية من مولد العام الماضي .وفي الليل تهدهدها. وتضعها بعناية في صندوق خشبي بركن الغرفة وتغطيها بقطعة قماشية.وفي كل مرة يعيد عم حسين الكره مع طفلته.ويكون الرفض والبكاء.ولم يكن أمامه سوي الصبر . وانتظار التموين بعدما اعيته كل الحيل.
وتم صرف التموين في القري المجاورة.ولكن عم حمودة.اوالشيخ حموده كما يحلو للبعض ان يناديه دوما متأخر في صرف التموين دون اسباب معلومة.وفي كل ليلة يذهب عم حسين للسؤال وتكون إجابة حموده ( بكره ) لينقضي اسبوع علي هذه الحال..الي ان جاءت ليلة رأي فيها عم حسين دكان حمودة يشع منه ضوء الكلوب.فزغرد قلبه بالفرحة.فقد وصل التموين. وتمني ان تطير خطواته من فرط سعادته.ووجد الدكان مزدحم .ولاتوجد الا اريكة خشبية شاحمة ومتهالكة.تتسع بالكاد لعدة أفراد. فجلس عم حسين القرفصاء علي عتبة الدكان انتظارا لدوره.خاصة وانه يخشي تعجل الأمر مع حموده.
فقد كان حموده دوما يتعامل مع أهالي القرية بغلظة وغباء.وله صوت غليظ مختنق يخرج كالنقيق من منخاره.وكلما ازداد الزحام كلما ارتفعت ساديته ويقسم
_ بدون يمين بالطلاق ..اقفل الدكان وكل واحد يروح علي داره.انا مش ناقص قرف ووجع دماغ
ويلتزم الجميع بالصمت والطلب علي استحياء. والتودد واللين دون رغبة.وكان بطيءا في عمله.اهم مايحرص عليه التوقيع بالصرف بالقلم والاختام. وكل برهة يخلع طاقيته الصوف.ويمسح راسه الصلعاء بمنديله المحلاوي والذي تاكلت اطرافه وبهتت خطوط ألوانه. رجل قصير.
منتفخ البطن.بالكاد تري عنقه. كأنما غرست راسه الضخم بين كيفيه. له وجه مستدير ممتليء.دوما عاقدا مابين حاجبيه.عم حموده اوالشيخ حموده رجل غريب الأطوار. فهو حافظا لاجزاء عديدة من كتاب الله.وهوالخطيب الأوحد في القرية لخطبة الجمعة والعيدين. يقرأ القرآن عند المقابر باجر مادي اوطعام. يسرق الشاي الحر والذي موعده في نصف الشهر.ويقوم ببيعه لاحد أصحاب المقاهي في المركز.وعند السؤال عن صرفه.تكون الإجابة( بكره ) ولاياتي بكره ابدا.يدخن الحشيش.ويتقول علي النساء.ولاتعرف الابتسامة وجههه الا في حضرة النساء..
والكل يحايله. فلابديل عنه..انه قدر القرية..وطال الانتظار.وتململ عم حسين في مكانه.حتي حان دوره اخيرا.فقام بالتوقيع واستلام تموينه. وخرج الرجل من الدكان تقفز به خطواته.اقترب أمله من التحقيق.بعد قليل سيرتشف الشاي مع دخان المعسل.فالبراد مدفوس في المنقد.وورقة المعسل كاملة.والارجيلة في انتظاره.قرطاس السكر في يده وفوقه ثلاثة من باكو الشاي.ووضع الباكو الرابع في جيب الصديري.فلامكان له فوق القرطاس..
وسار يتحسس خطأه في الظلام..محتصنا القرطاس بيده اليمني.وفي اليسري اناء طهو صغير مليء بالزيت. كان يتعجل خطواته.يريد قطع المسافة لبيته بأقل عدد من الخطوات..فترك الشارع الكبير وعطف بخطواته علي زقاق يختصر المسافة الي النصف تقريبا.والظلام دامس.والخطي مستعجلة.وفجاة انكفي الرجل بكامله وبكل مايحمل في معجنة طينية متخمرة بالتبن لصنع الطوب اللبني.والمعجنة عطنة وكريهة الرائحة. ونهض الرجل بعد لحظات عجز فيها عن النهوض..كان غير قادرا علي استيعاب الأمر..
مافيه واقع وليس بالحلم او الكابوس..لقد ضاع كل شيء في لمحة عين..ضاع التموين كله..ولم يعد باقيا سوي باكو الشاي في جيب الصديري.واناء الزيت المقلوب بزيته في الطين..اخذ يتحسس حبات السكر القابعة في الطين..وحواف القرطاس المبللة..وبالكاد عثر علي بلغته..ووقف الرجل محوقلا..لايدري ماذا يفعل في مصابه..وبخطي مكبلة بخيبة الأمل والرجاء عاد الي الي بيته.لكنه تردد في دخول البيت شاعرا بالخزي. فجلست وحيدا في الظلام علي مصطبة البيت.وطال مكوثه .وهنا شعرت زوجته بالقلق علي تأخره. فأخذت اللمبة الشعله وطفلتها في يدها.وماان خرجت من الباب حتي هالها مارات لتقول في جزع
_ بسم الله الرحمن الرحيم..الله اكبر..قاعد كده ليه ياحسين..
وقبل ان يجيبها اردفت قاءلة
_ وايه اللي عمل في هدومك كده..؟؟
فقد كانت ملابسه ملطخة بالطين..فقال بصوت مختنق بالبكاء
_ التموين ضااااع يازينب
_ ضاع ازاي…؟؟
_ وقعت بيه في المعجنة
وتداركت الزوجة الأمر لتقول في حسم مخفف لمصابهم
_ ضاع..ضاع..في ستين داهية..فداك الف تموين
_ انا السبب..ماكنش المفروض اغير الطريق..وامشي في الزقاق
_ ولاسبب..ولاغيره..مقطوع منه النصيب..ربنا عايز كده..ح نعترض علي حكمه وقضاه
_ ونعم بالله
_ قوم ادخل غسل ايديك وغير هدومك..وربك ح يدبرها
وهنا وضعت الطفلة يدها فوق ظهر والدها تهدهده كما فعلت والدتها ودخل عم حسين بيته بخطوات متثاقلة مطاطا الراس.ليقوم بغسل يديه وقدميه ويعطي زوجته باكو الشاي .الناجي الوحيد من الكارثة.ويقوم بتبديل ثيابه..ويجلس مستندا علي الجدار في وضع القرفصاء..لتغيب زوجته عنه لحظات لتعود ممسكة بكوب شاي فارغ لتقول في مرارة
_ رحت استلف كوباية سكر من الجيران لقيتهم لسه ماصرفوش التموين
فقال عم حسين من خلال زفرته الطويلة
_ طفي المنقد يازينب وطلعيه بره المندرة خلينا ننام
ليقوم بعد ذلك بوضع الجوزة وورقة المعسل في احد أركان الغرفة.ليعاود جلوسه السابق ممسكنا ذقنه بيده.ونظرته شاردة في اللاشيء..ليحوقل بصوت خافت..وخاطره يحدثه..التموين بالكاد يكفي نصف الشهر..فماباله بالنصفين. وقطع شروده صوت طفلته بجواره.ممسكة بعروستها.بعد ان نزعت عنها ثوبها وشعرها..لتصبح مجسما عاريا من الحلوي..لتقول بصوت خفيض
_ خد يابا العروسة..كسرها واعمل شاي ..انا مش عايزاها..خلاص لعبت بيها كتير
فنظر لابنته بعينانا مغرورقتان بالدمع..لياخذها في حضنه لاثما وجنتيها وراسها..مهدهدا ظهرها بيده .مكفكفا دمعه في ثوبها……..