“طائر الفينيق” بقلم/ وائل الريس

قصة قصيرة

تنسى .كأنك لم تكن هناك، تزرع الأمل كل يوم في حديقة الأيام، تنتظر  موسم الحصاد ، وفي لحظة مباغته تأتي الرياح، تقتلع كل شيء. لا تجد ما تتمنى أو ترجوه، تصارع من أجل البقاء

لكنك لا تستسلم. تنهض من بين الركام، تلمّ شتاتك كمن يجمع أوراق الخريف في كفّيه المرتجفتين. تتعلّم أن لا شيء يُمنح، كل شيء يُنتزع. تبدأ من جديد، تزرع بذورًا أقل وهجًا، لكنها أكثر صلابة. لا تنتظر المواسم، بل تصنعها.

وفي عتمة الليل، حين يظن الجميع أنك انطفأت، تضيء داخلك شرارة صغيرة، لا تُرى، لكنها تكفي لتذكّرك أنك ما زلت هنا، وأن البقاء ليس مجرد نجاة، بل مقاومة.

تستيقظ صباحًا لتجد شخصًا قد قرر إنهاء حياتك بكلمة. لا ينهي حياتك أنت، بل ينهي حياة من يرتبطون بك، من يتعلقون بكفالتك. تفقد البسمة، يرحل الأمل من العين…تجلس على طرف السرير، لا تعرف إن كنت تنهض أم تسقط. الهواء ثقيل، كأن الغرفة ضاقت فجأة، والجدران تهمس بما لا يُقال. تتساءل: كيف يمكن لكلمة أن تُطفئ كل هذا الضوء؟ كيف يمكن لقرار واحد أن يُسقطك من قمة المسؤولية إلى قاع العجز؟

تتذكر وجوههم، أولئك الذين ينتظرونك كل يوم، لا لأنك الأقوى، بل لأنك الأمل الأخير.

تنهض، لا لأنك بخير، بل لأنك لا تملك رفاهية الانهيار. تمشي نحو النافذة، تفتحها، وتدع الريح تدخل. لعلها تُعيد ترتيب الفوضى داخلك، أو على الأقل تُذكّرك أن العالم ما زال يتحرك، حتى حين يتوقف كل شيء فيك.

لم يكن يتوقع أن تُختزل كل تلك السنوات في جملة واحدة: “نشكرك على خدماتك.”

قالها المدير بنبرة محايدة، كأنها لا تعني شيئًا. لكن بالنسبة له، كانت نهاية فصل، بل نهاية حياة كاملة.

خرج من المكتب يحمل ملفه الشخصي، لا أوراق فيه سوى شهادة التقدير التي مُنحت له منذ سنوات، حين كان يُنظر إليه كركيزة لا غنى عنها.

في الطريق إلى منزله، لم يكن يرى السيارات أو المارة، بل كان يرى نفسه، يتكرر في كل وجه، يتلاشى في كل خطوة. الصراع لم يكن فقط مع الواقع، بل مع الذات.

من هو الآن؟

رجل بلا وظيفة، بلا دور، بلا سبب للاستيقاظ في الصباح.

كان العمل أكثر من مجرد راتب، كان نظامًا، كان انتماءً، كان مرآة يرى فيها نفسه كل يوم.

في الأيام التالية، بدأ يشعر أن العالم يتحرك بدونه.

الساعة لا تنتظره، الشمس لا تسأل عنه، والناس لا تلاحظ غيابه.

حتى المرآة في الحمام بدت وكأنها تنظر إليه بشفقة.

استيقظ ياسين في تمام السادسة والنصف صباحًا، كما اعتاد منذ خمسة عشر عامًا.

لم يكن هناك منبه، جسده صار يعرف الوقت دون حاجة لتنبيه.

نهض بتثاقل، وكأن النوم صار أثقل من الواقع.

غسل وجهه، حلق ذقنه، ووقف أمام خزانة الملابس.

اختار بدلته الرمادية، تلك التي كان يرتديها في الاجتماعات المهمة، وربطة عنق زرقاء داكنة، تعكس وقارًا لا يشعر به.

في المطبخ، كانت زوجته تُحضّر له القهوة، كما تفعل كل صباح.

ابتسم لها، ابتسامة مشروخة، وقال:

“يبدو أن اليوم سيكون طويلًا.”

ردّت وهي تضع له الكوب:

“كل يوم طويل عندك، لكنك تتحمل، أنت دائمًا قوي.”

كادت كلمتها تكسره، لكنه ابتلعها مع أول رشفة من القهوة.

خرج من المنزل، مشى بخطوات ثابتة، كأن وجهته واضحة.

لكن الحقيقة أنه لم يكن يعرف إلى أين يذهب.

ركب المترو، جلس في زاوية بعيدة، يراقب الوجوه المتعبة، الوجوه التي تشبهه، لكنها تملك وجهة  تذهب إليها عملا دائما مؤقتاً وقد يكون زائفاً مثله .نزل في محطة المترو ، واتجه إلى أحد المقاهي المطلة على الميدان  . جلس في ركن بعيد، طلب قهوة سوداء، وفتح حاسوبه المحمول، كأنه يعمل.

يراقب المارّين، الموظفين، أصحاب الحقائب، أولئك الذين يركضون للحاق بالوقت، والذين يتحدثون في هواتفهم عن اجتماعات وتأخيرات. كان يشعر أنه شبح بينهم—كائن لا يُرى، لا يُحسب، لا يُنتظر.

يمرّ الوقت ببطء، وهو ما يزال جالسًا في الزاوية القصيّة من المقهى؛ حيث لا أحد يلاحظ وجوده، ولا يسأله النادل إن كان يحتاج شيئًا آخر.

أمامه كوب قهوة لم يلمسه، وبجانبه حاسوبه المحمول مفتوح على صفحةٍ فارغة، كأنها مرآة لحياته الآن.

نظر من خلف الزجاج، فرأى الناس يمرّون بسرعة.

كلٌ منهم يحمل وجهة، هدفًا، توقيتًا. أما هو، فبلا توقيت، بلا وجهة، بلا مبرّر.

“هل كنت أعيش وهمًا؟” سأل نفسه، دون صوت.

“هل كانت الوظيفة هي كل ما أملك؟ هل كنت أُعرّف نفسي بها لأنني لا أملك شيئًا آخر؟”

تذكر أول يوم له في المؤسسة، كيف دخل بخطوات مترددة، وكيف تعلّم أن يكون جزءًا من النظام، أن يبتلع طموحه ليُرضي المدير، أن يُراكم الإنجازات دون أن يطلب مقابلًا.

كيف كان يدخل المؤسسة قبل الجميع، ويغادر بعد أن تُطفأ الأنوار.

لم يكن ذلك بطلب من أحد، بل من شعور داخلي بأن عليه أن يكون الأفضل، أن يُثبت نفسه، أن لا يُعطي مجالًا للشك في ولائه.

في صباحات الشتاء، كان يخرج من المنزل قبل أن تستيقظ زوجته، يترك لها ورقة صغيرة على الطاولة:  “اجتماع مبكر، لا تنتظريني على الإفطار.”

وفي ليالي الصيف، كان يعود متأخرًا، يفتح الباب بهدوء، يتسلل إلى غرفة النوم، يخلع بدلته دون صوت، وينام دون أن يتحدث.

في أحد الأيام، مرض ابنه الصغير، واحتاج إلى عملية بسيطة.

زوجته اتصلت به، قالت له: “ياسين، الطبيب يريد أن يراك، الأمر يحتاج قرارًا سريعًا.”

ردّ وهو في منتصف اجتماع: “أنا في اجتماع مهم، لا أستطيع الآن. خذي القرار أنت، أنا أثق بك.”

لكنها لم تكن تحتاج ثقته، كانت تحتاج حضوره.

في يوم آخر، نسي عيد زواجهما.

عاد إلى المنزل، وجدها تنتظره على العشاء، شموع خافتة، موسيقى هادئة.

قالت له بابتسامة حزينة:  “هل تعرف أي يوم هو اليوم؟”

ردّ وهو يخلع سترته:  “الثلاثاء؟”

أخفضت نظرها، وأطفأت الشموع ولم تعاتبه .

 “لكنهم طردوني بكلمة واحدة… مجرد توقيع على استمارة 6 .”

شعر أن كل شيء فقد معناه. البدلة التي يرتديها، الحاسوب الذي يحمله، حتى اسمه على بطاقة العمل التي ما زال يحتفظ بها في جيبه.

في منتصف اليوم، اتصلت زوجته.

ردّ بصوت متعب، متصنّع: “آه، آسف، كنت في اجتماع، ضغط كبير اليوم، المدير لا يرحم.”

سألته: “هل تناولت شيئًا؟ تبدو مرهقًا.”

أجاب:  “لا وقت، ربما أتناول شيئًا لاحقًا.”

ثم أنهى المكالمة، وأغلق عينيه للحظة، كأنها ستُعيد ترتيب الفوضى داخله.

“هل أخبرها؟ هل أقول لزوجتي إنني لم أعد ذلك الرجل الذي كانت تفتخر به؟”

ثم تراجع فورًا.  “لا، لا أستطيع… نظرتها لي ستتغير، وربما تفقد ثقتها بي. وأنا لا أتحمل أن أكون عبئًا.”

أغمض عينيه، حاول أن يتخيل نفسه في وظيفة جديدة، في مكان آخر، لكنه لم يستطع.

كل ما يعرفه، كل ما تعلّمه، كان هناك… في تلك المؤسسة التي لفظته كغريب.

“هل أنا قابل للاستبدال؟ هل كنت مجرد رقم؟”

استمرت جولته اليومية في البحث عن عمل، يحمل في يده حقيبة أوراقه، وسؤالًا لا يكفّ عن الطنين: “هل انتهيت؟ هل أصبحت خارج الزمن؟”

قدّم في أكثر من عشرين وظيفة خلال أسبوعين، ولم يتلقَ حتى اعتذارًا. كل الأبواب مغلقة، وكل السير الذاتية تُطوى دون أن تُقرأ. في إحدى المقابلات، قال له المسؤول بابتسامة مصطنعة:

“خبرتك ممتازة، لكننا نبحث عن طاقة شبابية.”

فتح عينيه، نظر إلى كوب القهوة، برد منذ زمن، مثله تمامًا. ثم نظر إلى الحاسوب، أغلقه، ونهض.

لم يكن يعرف إلى أين سيذهب، لكنه كان يعرف شيئًا واحدًا:  هو لم يعد كما كان.

مع اقتراب المساء، غادر المقهى، مشى ببطء، كأن كل خطوة تُثقله أكثر.

وصل إلى المنزل، زوجته استقبلته بابتسامة: “أهلاً بالبطل، كيف كان يومك؟”

ردّ وهو يُسند جسده المتعب وروحه المنهكة علي الأريكة :

 “مرهق جدًا، لا أريد أن أتكلم، فقط أريد أن أرتاح.”

صمت.  لكن الصمت لم يكن راحة. كان اعترافًا مؤجلًا، وجعًا مؤجلًا، انهيارًا مؤجلًا.

ها هو يعود الان إلي  منزله متثاقلًا، كأن كل باب طرقه رفض أن يُفتح، وكل سيرة ذاتية أرسلها عادت إليه بصمتٍ جارح.يشعر أنه لم يعد يُحسب، أن الزمن تجاوزه، الشركات تبحث عن شبابٍ لا يعرفون معنى الولاء، بل يتقنون لغة السرعة . في الخمسين من عمره، لم يعد يُرى كخبرة، بل كعبء.كخيل الحكومة، كما يقولون، انتهى دوره، وحان وقت الاستغناء.جلس في غرفته، نظر إلى علبة دواء الضغط الذي اصابه بعد خمسة اعوام في العمل بالمؤسسة  ، تأملها طويلًا.

لم يفكر، كان يهرب.فتحها، تناولها كاملة ، ثم تمدّد على السرير، ينتظر أن يُغلق الفصل الأخير بصمت.

 جاءالصباح .والشمس دخلت من النافذة كأن شيئًا لم يحدث.فتح عينيه، شعر بالدوار، لكنه كان حيًا.

جلس، نظر إلى المرآة، رأى وجهه الشاحب، وعينين مثقلتين بالخذلان.

ثم همس لنفسه: “حتى الموت رفضني… يبدو أن عليّ أن أواصل الدفع.”

في تلك اللحظة، لم يرَ نفسه كضحية، بل كسيزيف. ذلك الرجل الذي حُكم عليه أن يدفع الصخرة إلى قمة الجبل، لتسقط في كل مرة، ويعيد المحاولة دون نهاية.لكنه لم يكن ضعيفًا، فقط ضائعًا.

بدأ يكتب، لا ليصبح كاتبًا، بل ليُفرغ ما بداخله.كتب عن الخوف، عن الوحدة، عن الغضب، عن تلك اللحظة التي شعر فيها أنه يُستأصل من الحياة دون تخدير.

وفي إحدى الليالي، كتب جملة غيرت كل شيء:

“ربما لم أعد جزءًا من تلك المؤسسة، لكنني ما زلت جزءًا من هذا العالم.”

بدأ يرى الحياة خارج إطار الوظيفة.

بدأ يتحدث مع الغرباء في المقهى، يعيد الاتصال بالأصدقاء القدامى، يشارك أولاده ألعابهم، ويقرأ كتبًا لم يكن يملك وقتًا لها.شيئًا فشيئًا، اكتشف أن هناك حياة بعد السقوط—لكنها لا تُمنح، بل تُخلق.

بيديه المرتجفتين ، وبقلبٍ أنهكته العزلة، راح يعيد تشكيل أيامه، لا كما كانت، بل كما يجب أن تكون.

ياسين، في قلبه، قرّر شيئًا مختلفًا:

“إن كانت الحياة عبثًا، فسأمنحها معنى من عندي. سأدفع الصخرة، لا لأنني مجبر، بل لأنني أختار أن أقاوم.”

كان يظن أن هذا هو الحب الحقيقي: أن يعمل لأجلهم، أن يؤمن مستقبلهم، أن يبني لهم بيتًا من الأمان.

لم يكن يرى أن البيت بدأ يتصدّع من الداخل.

ظن أن كل هذا مؤقت، أن التعب سيُثمر، أن التضحية ستُكافأ.

ظن أن المؤسسة ستراه، ستُقدّر إخلاصه، ستمنحه الأمان الذي ضحّى لأجله.

ظن أن الولاء يُكافأ، أن الاجتهاد يُحترم، أن الاستقرار يعني الأمان.

لكنه لم يكن يعرف أن المؤسسات لا تُحب، لا تُعانق، لا تُسامح.

هي فقط تُوقّع، وتُغلق الملفات.

تمت

طائر الفينيق :هو طائر أسطوري خالد يتجدد دوريًا أو يولد من جديد، يشتهر بالنهوض من بين الرماد بعد احتراقه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى