مني النمر تكتب: دراجز المهرجانات … “إدمان رغم القانون”

ثمة اتجاهاً غريباً بدأ يتسلل إلى عقول الشباب من خلال بعض أشكال الفن ، سواء في الدراما أو فيما يعرف بالأغاني الشعبية الحديثة أو “المهرجانات” ….
هذا الإتجاه يروج لفكرة أن العدوانية والبلطجة هما الطريق لنيل الحقوق ، بل ويقدم من يمارس هذا السلوك كنموذج يحتذى به …
هكذا يتحول البلطجي إلى بطل ، والتهديد إلى وسيلة مشروعة ، و تختزل الرجولة في رفع الصوت وتجاوز القانون …
إن هذا النوع من المحتوى يرسخ في الأذهان صورة مشوهة للحق والعدل ، ويربي جيلاً يؤمن بالقوة الغاشمة لا بالحوار ، و بالترهيب لا بالقيم …
ولعل أخطر ما في هذا النوع من “الموسيقى” هو ما تولده من حالة ذهنية شبيهة تماماً بتأثير “المخدرات التخليقية”، حيث تعتمد على ترددات صوتية مرتفعة وتراكيب موسيقية تماثل ما يعرف بموسيقى “الدراجز” المحظورة في بعض الدول …
هذه الأنواع لا تعزف للذوق ، بل تصمم لإثارة مناطق معينة في الدماغ تحفز الانفعال السريع أو الدخول في حالة من الانفصال المؤقت عن الواقع ، تماماً كما تفعل المؤثرات العقلية …
وهو ما يجعلها بيئة خصبة لزرع كلمات مشحونة بالعنف أو التشويه أو اللاإنسانية ، تلقن للمستمع كأنها عقيدة لا أغنية …
نحن لا نكتب عن الفن ، ولا نهاجم ذوق الناس ، ولا نمارس وصاية على أحد … نحن نكتب عن حالة ، نشهدها كل يوم في الشارع ، في المدارس ، في أعين أطفال لم يتجاوزوا الخامسة عشرة ، يرددون كلمات لا يعرفون معناها ، لكن مفعولها فيهم مثل المخدر …
شعور لحظي بالقوة ، بالسيطرة ، بالإقدام …
وكأنك ضغطت زرً فاشتعل شيء ما داخل الرأس ، صخب لا يمكن إسكاته ، ورغبة لا يمكن تفسيرها في التمرد … التمرد على كل شيء …
المهرجانات التي بدأت كنوع من الفن الشعبي ، تحولت تدريجيا إلى ما يشبه “دراجز” من نوع جديد …
لا تباع في الشوارع الجانبية ، بل تبث في كل بيت ، وتسمع في كل مناسبة ، وتدور في خلفية عقول صغار لا يزالون في مراحل تكوينهم الأولى …
الأطفال لا يعرفون ما هو الميتافيتامين ، لكنهم يعرفون جيداً كيف يرددون كلمات مثل “اخبط ، كسر ، سيطر ، شطبنا ، أنا الشبح ” ، وكأنها تعليمات مشفرة لقوة يجب أن تمارس ، لا تفهم …
المشكلة ليست في مجرد كلمات ، المشكلة أن هذه الكلمات أصبحت نموذجا يحتذى ، وأسلوب حياة يقلد ، وصوتا أعلى من صوت الأسرة والمدرسة والدين … قوة زائفة ، تزرعها هذه الأغاني في عقل الشاب الصغير ، تشبه الإحساس الذي تمنحه بعض أنواع المخدرات ، لحظات من الانتشاء والتجرد من الخوف ، يظن فيها نفسه بطلاً لا يقهر ، لا يخشى عواقب ، ولا يرى في التعدي على غيره شيئاً خطأ …
كم مرة وقفت أمام مقطع فيديو يظهر شجارا عنيفاً بين مراهقين ؟
كم مرة سمعت عن جريمة ارتكبت بين طلاب لم تتجاوز أعمارهم العشرين …؟
كم مرة تساءلت: “إيه اللي حصل …؟ هما اتغيروا كده ليه …؟”.
والإجابة ليست بعيدة … اسأل عن ما يسمعونه …
اسأل عن ماذا يقول لهم هذا الفن ، ومن الذي قال لهم … قال إن الرجولة عنف ، وإن الاحترام ضعف ، وإن الصوت العالي قوة ، وإن البلطجة شطارة …
نحن لا نطالب بإلغاء المهرجانات .
لسنا ضد الإيقاع الشعبي ، ولا ضد فرحة الناس .
فدائما ما كان هناك الفلكلور الشعبي في تراثنا ، يقدم النموذج و الاخلاق …
نحن نطالب بشيء بسيط جداً :
أن ننتبه … أن نسأل أنفسنا: ماذا تعلم هذه الأغاني لأولادنا …؟ وأي طبع تغرسه فيهم …؟
لأن الأمر لا يتوقف عند أغنية ، بل يتسلل في الطباع والتصرفات والاختيارات …
ابنك قد يتأثر بكلمة أكثر من تأثره بسنوات من التربية ، لو كانت هذه الكلمة مملوءة بإيقاع يحرك فيه مشاعر التمرد والانفعال …
نحن أمام كارثة تتشكل على مهل ، لانها في الواقع ليست مجرد كلمات … لكنها أدوات تشكيل …
أن تسأل ابنك: “بتحب تسمع إيه ؟” ليس من باب الفضول ، بل من باب الحماية …
أن تستبدل له ما يفسد ، بما يصلح ، دون أن تشعره أنك تنتزع منه متعته ، بل تمنحه بديلا أكثر وعيا …
نحن لا نطلب من الفن أن يصبح واعظا ، ولا أن يتحول إلى دروس أخلاق …
نحن نطلب فقط أن يبقي بعضا من المسؤولية ، أن لا يزرع في قلوب أبنائنا قنابل ، تنفجر لاحقا في وجه المجتمع كله …
ولا يمكن هنا أن نتجاهل مسؤولية الرقابة الفنية ، كالمصنفات الفنية ، أو رقابة الأهل داخل البيوت …
إذ أن غياب الضبط الفني ، وتمرير أعمال تشوه الذوق العام وتسهم في تدهور القيم الأخلاقية والدينية و الاجتماعية ، هو خيانة للمجتمع وللأجيال القادمة …
الرقابة ليست قمعا ، بل حماية ، والتوجيه ليس كبتا ، بل مسؤولية …
المعركة اليوم ليست بين أجيال ، بل بين وعي ولا وعي …
بين فن يرقى بالناس ، وفن يهبط بهم …
بين صوت يحفز على التفكير ، وصوت يغرقك في صخب و لا يسمح لك بأن تفكر حتى …
نحن لا نقول: امنعوا …
بل نقول: اختاروا … راقبوا … ربوا …
لأن كل واحد فينا مسؤول ، “وكلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته” …