د. ناصر الجندي يكتب: البكالوريا المصرية.. الحلم اللي ابتدينا نمشي له لإعداد جيل قادر على المنافسة محليًا وعالميًا.
الخبير التربوي مدير إدارة حدائق القبه التعليمية

هل كنت تتخيل يوماً إننا فعلاً نبدأ نودّع نظام الثانوية العامة القديم بكل ما فيه من ضغوط نفسية، وتوتر عصبي، وخوف بيعيش فيه الطالب وأهله لمدة سنة كاملة، لو مش أكتر؟
كنت دايمًا – كمسؤول في الإدارة التعليمية، وكأب كمان – بتساءل: ليه مستقبل طالب ممكن يتحط على كفّ امتحان واحد؟ وليه نربّي جيل كامل على الخوف بدل ما نربيه على الفهم والثقة والخيال؟ ويمكن علشان كده لما سمعت عن “البكالوريا المصرية” حسّيت لأول مرة إن فيه أمل حقيقي إننا نغيّر الحكاية من جذورها، مش نلوّنها بألوان مختلفة ونقول “طورنا”.
البكالوريا المصرية نظام جديد وافق عليه البرلمان، وبدأ يتكلم فيه المجتمع – من المدارس للبيوت، ومن المعلمين للطلبة، ومن أولياء الأمور للناس اللي في الشارع. نظام مش إجباري، وده في حد ذاته شيء مختلف. الطالب يقدر يختار بين النظام التقليدي للثانوية العامة، أو يدخل في مسار البكالوريا، على حسب ميوله وطموحه. وده بيدينا لأول مرة فرصة نحترم الفروق الفردية بين الطلاب، ونعترف إن مش كل الناس لازم تمشي على نفس السِكّة، وإن مش كل الطرق بتؤدي لكليات القمة.
كمدير إدارة تعليمية، أنا شوفت على مدار السنين قد إيه الطلبة بيتظلموا، مش لأنهم مش شاطرين، لكن لأن النظام ما كانش بيحتويهم. النظام الجديد بيقدم أربع مسارات تعليمية واضحة: الطب وعلوم الحياة، الهندسة وعلوم الكمبيوتر، الأعمال، الآداب والفنون. ولأول مرة الطالب اللي عنده موهبة فنية أو عقلية تجارية يلاقي طريق حقيقي يمشي فيه من بدري، بدل ما يضطر يحبس نفسه في علمي أو أدبي، وهو مش مقتنع.
أولى ثانوي هتفضل سنة تمهيدية عامة، عشان الطالب يجرب ويتعرف على نفسه، وابتداءً من تانية يختار تخصصه. وده شيء مهم جدًا، لأن جزء كبير من أزمة التعليم في مصر إننا بندفع الطالب يختار مستقبله قبل ما يكون لسه عرف هو مين، وبيحب إيه.
كمان، من أهم الحاجات اللي شجعتني إن النظام ده بيكسر مفهوم “الفرصة الواحدة”. بدل ما الطالب يترعب من امتحان آخر السنة، عنده امتحانين في كل مادة، وكمان فرصة لإعادة الامتحان لتحسين الدرجات. وده بيخلّي الغلطة مش نهاية العالم، وبيحط قدامه فرصة حقيقية يتعلم، مش ينجح وبس.
وبصفتي مدير إدارة، شايف إن النظام ده لو اتنفّذ بجدية، وبحسن نية، هيكون نقطة تحول حقيقية. لكن لازم نقول بوضوح: فيه تحديات كبيرة، ومينفعش نغفلها. هل المدارس كلها جاهزة بالبنية التحتية؟ هل المعلمين اتدرّبوا على طرق التدريس الحديثة والتقييم البديل؟ هل وُضعت خطط لتوعية أولياء الأمور ومساعدتهم يفهموا الفكرة الجديدة ويقتنعوا بيها؟ دي أسئلة لازم تتجاوب بصدق، ومن غير تهوين ولا تهويل.
بدأت ألاحظ بنفسي في اجتماعاتنا اليومية، وفي الجولات الميدانية، إن فيه حالة ترقّب، فيها خوف وفيها أمل في نفس الوقت. الأهالي محتاجين حد يشرح لهم، والمعلمين محتاجين دعم، والإدارات محتاجة أدوات وخطط واضحة، مش تعليمات عامة. وفي وسط ده كله، الطالب هو الأساس، ولازم نحط راحته النفسية وتكوينه الشخصي على رأس أولوياتنا.
في مرة كنت في مدرسة، وقابلت طالب في أولى ثانوي، سألني: “هو النظام الجديد ده يعني إني ممكن أتعلم حاجة بحبها، مش بس أحفظ علشان أنجح؟” ساعتها حسّيت إن السؤال البسيط ده هو جوهر الحكاية كلها. نعم، الهدف من البكالوريا هو إننا ندي للطالب مساحة يختار، ويغلط، ويتعلم، ويعيد المحاولة، ويكتشف نفسه، بدل ما يعيش في سباق درجات مرهق ومحبط.
التعليم مش مجرد كتب ومناهج وامتحانات، التعليم هو بناء إنسان. ولما يبقى عندنا نظام بيشوف الطالب كإنسان، مش كمجرد رقم في الكنترول، يبقى إحنا ماشيين في الطريق الصح. هل الطريق طويل؟ أكيد. وهل فيه صعوبات؟ طبعًا. لكن البداية بدأت، والنية موجودة، والفرصة قدامنا.
في النهاية، بعد كل اللي شفته في الميدان، أقدر أقول إن البكالوريا المصرية مش مشروع على ورق، دي فكرة بتتولد، ولسه بتتحرك وبتنمو. لو قدرنا نحضنها ونرعاها بوعي ومسؤولية، هنشوف بعد كام سنة جيل مختلف، متعلّم عن حب، وبيفكر، وبيحلم، ومش مرعوب من الامتحان. جيل بيختار طريقه، وبيمشِي فيه وهو رافع راسه، مش مطأطئها قدام “مجموع”.
السؤال الحقيقي مش هل ننجح ولا لأ، لكن: هل إحنا مستعدين نغير عقولنا، مش بس مناهجنا؟ لأن اللي هيحدد مصير البكالوريا مش القانون، لكن الطريقة اللي هننفذ بيها، والإيمان اللي هنزرعه في قلوب الناس إنها تستحق فرصة أحسن… وأولادنا كمان.