وائل الريس يكتب: “يهود الظاهر”: ذاكرة الحي المنسي وحنين الهوية

قراءة نقدية في سردية الوجود اليهودي بالقاهرة

في زمن تتآكل فيه الذاكرة الجماعية بفعل الصراعات والحروب العقائدية والبحث عن هوية، تقدم الباحثة في هوية المكان والزمان، الكاتبة سهير عبد الحميد، في كتابها “يهود الظاهر: مسعودة وليشع ومرزوق” فصلًا مهملًا من التاريخ المصري إلى الواجهة. هذا التاريخ لا يُكتب في كتب المدارس ولا يُروى في نشرات الأخبار، بل ينبض داخل الأزقة والممرات وحكايات الجيران.

بين التوثيق والحنين: جنس أدبي فريد

يصعب تصنيف هذا الكتاب ضمن قالب سردي تقليدي؛ فهو ليس رواية، ولا تحقيقًا صحفيًا، ولا حتى دراسة تاريخية بالمعنى الأكاديمي. إنه أقرب إلى “أدب المكان” و”سيرة المكان والناس“، حيث تمتزج شهادات الذاكرة الشخصية بسرد تاريخي شفاف، لتُنتج نصًا يحمل صدقًا وجدانيًا عميقًا.

يتناول الكتاب حي الظاهر، الواقع في قلب القاهرة، الذي ضم جالية يهودية قرائية ازدهرت فيه لسنوات طويلة، قبل أن تتلاشى تدريجيًا تحت وطأة الحروب والصراعات والتحولات السياسية والوجدانية.

“في شارع الظاهر، كانت شجرة الجوافة تنشر أريجها في ساحة المعبد، وكأنها تحفظ للمكان ذاكرته.”

هنا، تتحول التفاصيل البسيطة—كشجرة أو رائحة—إلى رموز ذاكرة حية، تقاوم النسيان بشراسة الجمال.

الهوية المركبة والهوية المصرية

يخلخل الكتاب التصورات النمطية عن “اليهودي” في الوعي العربي، عبر استحضار أفراد لا يُقدَّمون كغرباء أو آخرين، بل كأبناء الحارة، شركاء الأفراح والأحزان، أصحاب المحلات والبقالة، زملاء المدرسة.

“كانوا أكثر مصرية من المصريين، يعرفون أعيادنا، ويشاركوننا أفراحنا، ويغلقون محالهم في رمضان احترامًا للصيام.”

في اقتباس كهذا، تتلاشى الحدود الهوياتية، ويغدو الانتماء فعلًا وجدانيًا لا بطاقة هوية. تؤكد الكاتبة أن المصري لا يُختزل في دينه، بل في اشتراكه اليومي بالحياة العامة، بلغتها ومزاجها وحسها الشعبي.

المدينة التي تغيرت…

من خلال رصد ملامح المكان، تقدم الكاتبة شهادة حية على تحولات القاهرة خلال القرن العشرين، من زمن العربات والسوارس والترام، إلى مدن الحداثة المتسارعة والخطاب الأحادي.

“ودّع سكان القاهرة عربات السوارس ومواقف الحمير، وظهر الترام كعفريت يخترق سكون المدينة.”

إنه مشهد حضري، لكنّه في جوهره شهادة على تحول ثقافي واجتماعي عميق، حيث تفقد المدينة براءتها، ويندثر تنوعها رويدًا رويدًا.

الأسلوب: بين الشعر والوثيقة

يعتمد أسلوب الكاتبة على اللغة الشفافة والبسيطة، لكنها محملة بعاطفة دافئة، ولحظات شعرية أقرب إلى التأمل:

“البيوت كانت تتنفس، والجدران تحفظ الأصوات، والممرات تعرف أسماءنا.”

تخلق هذه اللغة جسرًا وجدانيًا بين القارئ والمكان، حتى يشعر المرء أنه يسير في الحي ذاته، يرى الواجهات، يسمع الأصوات، وربما يلتقي مسعودة أو مرزوق على ناصية الطريق.

مع هذه الشاعرية، يُلاحظ اعتماد الكتاب على الذاكرة الشفوية أكثر من الوثائق الأكاديمية، وهو ما قد يراه البعض ضعفًا توثيقيًا، بينما يعتبره آخرون عنصرًا أدبيًا يمنح النص حميميته.

خاتمة: ضد النسيان

يأتي “يهود الظاهر” كمحاولة شجاعة لاستعادة ما تُرك خلفنا عمدًا أو سهوًا. إنه ليس مجرد كتاب عن اليهود المصريين، بل شهادة على ما تعنيه العيش المشترك، وما نخسره حين نجعل الدين والهوية جدرانًا عازلة بدلًا من جسور للتواصل. في عالم سريع النسيان، هذا الكتاب يصرخ همسًا:

“كانوا هنا… وكانوا منا… فلا تجعلوا الغياب والصراع موتًا آخر.”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى