الخط العربي: جسر الهوية والجمال في أصيلة

كتبت/ لينة المحفوظي
“حين تتحدث الجدران بألوانها الصامتة، تولد قصص لا تُقال بالكلمات”؛ عبارة رنانة تغنى بها محمد أمين الشريكي في نصه عن جدارية الفنان السوري خالد الساعي. هذه الجدارية أثرت في الكثير من أطفال مشغل التعبير الأدبي وكتابة الطفل، فقد كانت مصدر إلهام للعديد منهم، فأنجزوا قصائد ونصوصًا أدبية تعبر عن مدى إعجابهم بجمالية تلك اللوحة، التي ليست مجرد حروف على جدارٍ أخرس، بل هي تجسيد للفن في أرقى حالاته.
في أصيلة، يقام مهرجان ثقافي دولي ثلاث مرات كل عام، يحج إليه الفنانون والأدباء المقتدرون من شتى أنحاء العالم. لهم في سماء أصيلة التي تضم بحرها الأزرق الفيروزي ومويجاتها المرحابة، منبع إلهام وإبداع، فتضج المدينة بالقوافل الفنية لفترة تمتد زهاء شهر، تبرز خلالها مواهب أصيلة متحدة مع مواهب باقي أنحاء العالم.
ومن بين تلك المواهب، نذكر خالد الساعي، الفنان السوري الذي صنع لنفسه بصمة خاصة به، ألا وهي تقنية الخط العربي الفريدة التي يعتمدها منذ سنوات، حتى أن جداره أصبح موسومًا بروح الحرف العربي من كثرة ما رسم عليه. وكما أحب أن أسميه، فهو جسر الهوية والجمال؛ فشكله المنمق، الذي يرسمه بشتى أنواع الخط العربي، سواء الرقعة أو الكوفي، يجذب عين المتفرج ويسحرها، حتى لو لم يكن يفهم العربية، إذ ينسج الجمال في كل حرف، وكما قالت فردوس افريكلة: “في العيون نرى فنًا فيه صدق واحتفال”
وأضافت فاطمة الزهراء الشرادي كذلك: “الأسرار تختبئ بين الحروف، والجمال يختبئ بين الألوان”

دور الخط العربي في نقل جمال التعبير
يتجلى دور الخط العربي بوضوح في نقل جمال التعبير والتعريف بالهوية العربية، فهو جزء من هوية المهرجان والفنان ذاته. خطوطه مرصوصة، دقيقة، ومرسومة بعناية لا متناهية، تجذب العين وتسرها، فيما تضفي الألوان رمزية للحياة والأمل على اللوحة. فلو كانت اللوحة مجرد خطوط سوداء، لكانت جماليتها محدودة، في رأيي على الأقل، فاللون يمنحها إشعاعًا خاصًا.
وقد اختار الفنان في هذه الدورة ألوانًا باردة مثل الأزرق، والأخضر، والبنفسجي، لتضفي على جداريته رونقًا متناغمًا مع جو المدينة الساحلي المعروفة ببحرها المنعش وصيفها الحار. وقد وصفت ملاك العدلاني ألوان الجدارية قائلة: “والأخضر غابة تعانق نسيم الشتاء، والأزرق أنفاس بحر يناجي الشطآن”
وقد قام الفنان بمبادرة جميلة سرّت أطفال مشغل التعبير الأدبي وكتابة الطفل، وهي إضافة أسمائهم على الجدار. وهذا يفتح مدخلًا جديدًا للفن، وهو الفن غير المخطط له، المعتمد على اللحظة والمناسبة والظروف التي ينسج فيها الفنان خيوط عمله. لقد برهن خالد الساعي على قدرته على التأقلم مع الظروف، وخلق جو حميمي في لوحته، وهذا من أهم خصائص الفنان؛ إذ يجب أن يكون سلسًا يتكيف مع التغيرات بسهولة، فيبدع عملًا نابضًا بالحياة، يعج بقصص تروى بين طياته، ويحس فيه المتأمل للوحة أنه جزء منها. وقد عبرت عن ذلك إحدى الطفلات مشبهة الأسماء المخطوطة على الجدار: “كباقة ورد بألوانها الزاهية ومعانيها الفريدة”

الجدارية: نشيد للألوان وهمس للحروف
وهنا يظهر دور الجدارية في جعل المكان نابضًا بالمعنى والفن؛ فلولا تلك اللوحة لبقي الجدار الأبيض أخرس كباقي جدران المدينة، ولما حظيت أصيلة بهذا الصدى الفني بين الأمصار. هكذا، تبقى جدارية خالد الساعي أكثر من لوحة على جدار؛ فهي نشيد للألوان وهمس للحروف، كما أنها تعكس وجدان مدينة أحبت الفن حتى صار جزءًا من ملامحها. وهي كما قالت توبة بوق: “حلم في قلب السماء، أو موجة ضاعت في الفضاء”
وزادت نور إسلام اللوكي كذلك: “وفي همس الألوان، تتكلم اللوحة دون صوت”
ففي صمتها تولد الحكايات، وفي ألوانها يزهر الأمل، وكأنها تقول لنا: الفن لغة الروح التي لا تُترجم، وما ينسج الفن إلا قلب شبّ على حبه، فيصل صبيبه لا محالة إلى باقي القلوب.



