مني النمر تكتب: طفل يغتصب … و وطن يختبر …؟!!

ليست كل الجرائم سواء ، لكنها كلها خطايا ضد الإنسانية … وما من جريمة تحمل هذا القبح الكامل مثل إغتصاب طفل …
فقلبك لا يحتاج إلى دليل كي ينكسر ، ولا تحتاج أن تعرف ديانة الجاني أو إسمه أو هويته لتشعر بالغضب والوجع ، لأن الجريمة في ذاتها كافية …

لكننا اليوم لا نقف أمام الجريمة فقط ، بل أمام مشهد آخر أكثر خطراً ، مشهد استغلال الجريمة لتفكيك وطن .

في قضية الطفل ياسين ، كانت الصدمة قاسية ، لكنها وجدت طريقها إلى منصة العدالة بتصميم أم شجاعة و حق مستحق …
و حكم القضاء المؤبد على الجاني جاء واضحا ، رادعا ، لا مجاملة فيه ولا تمييز ، والعدالة قالت كلمتها…
ومع ذلك ، لم يصمت البعض …
وكأن الجريمة لم تكن تكفي ، فصار البعض يرى في الطفل ياسين وسيلة لاختبار وحدة الوطن ، لا وسيلة للمطالبة بحقه …

فخرجت أصوات ، من هنا وهناك ، تحاول أن تصب الزيت على النار ، وتحول الجريمة من مأساة إنسانية إلى معركة طائفية . يعاد نشر تفاصيل مؤلمة ، ويفتح الباب لتفسيرات مسمومة ، وتحليلات لا هدف لها إلا خلق شرخ جديد في جدار المجتمع الواحد .

و لا يزال البعض يصر على إشعال نار قد أخمدت . صفحات ومقاطع ومنشورات تسعى لاستعادة الغضب ، وتحويله من غضب مشروع تجاه الجريمة ، إلى غضب أعمى ضد طائفة ، أو دين، أو جماعة … وهذا هو الخطر الحقيقي …

فمن جانب نجد التهكم على حكم القضاء نفسه ، والتشكيك فيه ، وكأن العدالة باتت مجرد محاولة لترضية الرأي العام . هذا الإتهام وحده فتنة ، ومحاولة لهز الثقة في أحد أهم دعائم الدولة “مؤسسة القضاء ” …
و من جانب آخر هناك من يدعو إلى مقاطعة المدارس المسيحية ، أو إغلاقها ، وكأن وجود هذه المؤسسات التعليمية هى الجريمة …

و مع ذلك كان دور القضاء حاضرا . لم ينتظر الحكم سنوات ، ولم تغلق القضية بعبارات هشة . بل جاء حكم القضاء سريعا ، حازما ، واضحاً ، أفسد الطريق أمام أي جدال ، مع العلم بأن “رئيس محكمة دمنهور الذي أصدر الحكم ، مصري مسـيحي المستشار ‘شريف كامل عدلي”

، و الذي يؤكد أن العدالة لا تعرف دين ، وأن لا احد فوق القانون ، فالكل أمام القانون سواء ” …
لدينا الثقة الكاملة في مؤسساتنا القضائية ، وفي أجهزتنا ، وفي وعي الأغلبية من أبناء هذا الشعب …

وأن هذه العدالة ليست مجاملة لأحد ، بل لتحقيق العدالة ، و حماية للوطن من التشقق ، ومن استغلال الجريمة لتغذية الفتنة .

و ليعلم أولئك و هؤلاء أن العدالة لا تدار بمنشورات الفيسبوك ، ولا ترضي جمهورا ، بل تقام على أسس قانونية ، وحكم يصدر بعد تيقن من أدلة و شواهد ، وليس كما يزعمون مجرد استجابة لضغط أو صياح …

و دعونا نذكر أنفسنا : لا دين يغفر جريمة اغتصاب .
لا عقيدة تسمح بالعدوان على الجسد والكرامة .
لا مبرر ، ولا غطاء ، ولا راية ترفع فوق هذا النوع من القذارة …

فالإنحراف الأخلاقي لا يعرف دين .
و كل مجتمع في العالم فيه من ينحرف ، لكن المجتمعات القوية لا تسمح لهذا الانحراف أن يلوث صورتها …

ولأننا لا نملك رفاهية الإنتظار ، فلابد أن نعي أن الوقاية لم تعد اختيارا ، بل صارت فرضاً ..

و تبدأ الحماية من داخل بيوتنا ، ولا يكفي أن نوعي الطفل ، بل من الضروري أيضاً متابعته عن قرب ، وملاحظة سلوكياته اليومية و تغيراته النفسية ، فغالباً ما تكون التفاصيل الصغيرة هي أول خيط ينبهنا إلى ما لا يقال …

ثم يأتي دور الدولة ،
وفي ظل هذا الانفلات الرقمي ، بات من الضروري أن تتحرك الدولة بحسم لتتبع الحسابات والمحتويات التي تثير الفتنة بين المواطنين ، سواء كانت عن عمد أو جهل …
فترك الساحة مفتوحة لكل من يسعى لإشعال نار الإنقسام يعد خطراً داهما على أمن الوطن ووحدته …
فلا يجب أن يترك هذا الملف للمشاعر وحدها على صفحات الفيسبوك ، بل لا بد أن يكون للدولة اليد العليا في فرض الانضباط ومحاسبة كل من يعبث بوحدة الصف …
هذا بالتوازي مع توفير خطوط ساخنة حقيقية يتواصل فيها الطفل أو ولي أمره في سرية وأمان ، مع رقابة مشددة على المؤسسات التعليمية ، وفتح مساحات للحديث عن هذه القضايا دون خجل أو إنكار …
الحماية تبدأ من الوعي . والوعي يبدأ حين نقرر أن نكف عن دفن رؤوسنا في الرمال …

قضية الطفل ياسين كانت درسا … في الألم ، وفي العدالة ، وفي الكشف …

فالجريمة فردية ، والعدالة جماعية…

أما الفتنة ، إن تركت ، فهي نار لا تبقي شيئاً من الوطن ولا تذر …

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى