محمود العربي يكتب: التضخيم الممنهج لأعداد العمالة: من “بلبن” إلى صناعة الوهم!

في كل مرة يتعرض فيها أحد أصحاب المصانع أو الشركات لمشكلة أو أزمة، سواء كانت ضريبية أو تنظيمية أو حتى مرتبطة بشكاوى المستهلكين، نسمع التصريح ذاته:

“سوف يتم تشريد آلاف العاملين!”
تصريح يبدو في ظاهره إنسانيًا، لكنه في كثير من الأحيان لا يعدو كونه ورقة ضغط تُستخدم للتأثير على الرأي العام وصانع القرار. (ملحوظة مهمة نحن لسنا مع قرارات الغلق حتي لو كان عدد العمال 5 أفراد) .

المثال الأحدث على ذلك جاء من الأزمة التي طالت سلسلة محلات “بلبن”، حيث ادعى مالك السلسلة أن لديه 25 ألف عامل مهددون بالتشريد نتيجة الإجراءات التي اتُخذت ضده. لكن بالنظر العقلاني والمنطقي للأرقام، نجد أن هذه التصريحات تفتقر إلى الدقة.

سلسلة “بلبن” تضم، حسب التصريحات الرسمية، 102 فرع على مستوى الجمهورية. ولو افترضنا، بأقصى درجات الكرم في التقدير، أن كل فرع يعمل به:

15 عاملًا داخل الفرع،

و15 عاملًا ضمن فريق التوصيل (الدليفري)،

فإن إجمالي العمالة لكل الفروع لا يتجاوز:
(102 فرع × 30 عاملًا) = 3,060 عاملًا.

وإذا افترضنا أيضًا أن لدى الشركة مصنعًا أو أكثر يعمل به نحو 2,000 عامل، فإن إجمالي عدد العاملين – وفق هذا التصور المتساهل – يصل إلى نحو:

5,060 عاملًا على أقصى تقدير.

وعند مقارنة هذا الرقم بما تدعيه الشركة من وجود 25 ألف عامل، فإن الفجوة تصبح غير منطقية وغير مبررة. ولإيضاح مدى المبالغة، يكفي أن نُشير إلى أن مجموعة “عز الدخيلة” للحديد والصلب، وهي من أكبر الكيانات الصناعية في مصر وتعمل في قطاع كثيف العمالة مثل الحديد والصلب، يبلغ عدد العاملين فيها حوالي 10,000 عامل فقط.
أما مجموعة مصانع “توشيبا العربي”، وهي مؤسسة صناعية ضخمة تعمل منذ عقود وتغطي قطاعات متنوعة من الأجهزة الكهربائية، فيصل عدد العاملين فيها إلى نحو 35,000 عامل، وهو رقم يعكس حجم استثماراتها وبنيتها التحتية الكبيرة والمنتشرة في مختلف المحافظات.

فهل يُعقل أن شركة حديثة العهد نسبياً مثل “بلبن”، تعمل في قطاع الأغذية والمشروبات، وتملك عددًا محدودًا من الفروع، تُوظّف عددًا يقارب ما توظفه “توشيبا” العملاقة؟

المنطق والواقع يرفضان هذا النوع من التضخيم الذي لا يهدف إلا لتضليل الجمهور.

لماذا تمثل هذه الظاهرة خطرًا على الدولة والمجتمع؟

إذا ما استمر هذا النمط من التضخيم دون رقابة أو تدقيق، فإننا أمام صورة مشوهة لواقع سوق العمل في مصر، تجعل من الصعب على الدولة وضع سياسات تشغيل دقيقة، وتفتح الباب أمام استغلال بعض أصحاب الأعمال للخطاب الإنساني بصورة انتقائية.

ولنفترض جدلًا أن كل صاحب شركة أو مصنع يبالغ في أعداد العمالة لديه بهذه الصورة، فإن ذلك يعني نظريًا أن مصر لا تعاني من البطالة، في حين أن البيانات الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تشير إلى أن معدل البطالة في مصر يبلغ نحو 6.9% حتى نهاية عام 2024.

إذا كنا نهدف إلى بناء دولة حديثة قادرة على التخطيط العلمي لسوق العمل، فلا بد أن تكون لدينا بيانات دقيقة ومعتمدة حول حجم العمالة في كل منشأة. ومن هذا المنطلق، فإن الدولة مطالبة بأن تطلب من أي صاحب عمل يدّعي امتلاكه آلاف العاملين أن يُقدِّم:

قوائم موثقة بأسماء العاملين،

نسخًا من عقود العمل،

وشهادات التأمينات الاجتماعية الخاصة بهم.

هذا الإجراء ليس بهدف التعسف أو التضييق، بل هو ضرورة لضمان الشفافية، وتحديد الأولويات، ووضع سياسات تشغيل حقيقية تعكس الواقع، لا الوهم.

ولا يعني هذا أننا ضد أصحاب المصانع أو المشروعات الخاصة بأي حال من الأحوال، بل على العكس تمامًا، فإن دعم وتشجيع الصناعة المحلية، وتوسيع قاعدة الإنتاج، وجذب الاستثمارات الأجنبية، هو الطريق الحقيقي لنمو الاقتصاد المصري وزيادة معدلات التوظيف.

إننا لا نتخذ موقفًا من محلات “بلبن” أو غيرها، فليس هذا هو الهدف، بل نحن بصدد مناقشة قاعدة اقتصادية ومنهج عام يجب أن يُتبع في تقييم أعداد العمالة وحجم النشاط. نحن نؤمن أن كل مشروع – سواء وظف ألف عامل أو مئة فقط – هو مكسب حقيقي للدولة، ويخفف من عبء التوظيف الحكومي، ويساهم في تحريك عجلة الاقتصاد، ويخلق قيمة مضافة للمجتمع.

إن دعم أي نشاط إنتاجي أو تجاري لا يتعارض مع تطبيق القواعد والضوابط، بل يتحقق من خلال الموازنة الدقيقة بين تشجيع الاستثمار من جهة، وحماية المصداقية والشفافية من جهة أخرى.
فالوطن لا يُبنى بالأرقام المبالغ فيها، ولا بالشعارات، وإنما بالعمل الحقيقي، والمشروعات الجادة، والسياسات المبنية على بيانات واضحة.

خلاصة القول:

الدفاع عن المصالح المشروعة حق مكفول لكل صاحب نشاط، لكن لا يجوز أن يتحول إلى وسيلة للتهويل والمبالغة.
الحكومة، كما المجتمع، لن تتردد في دعم أي كيان اقتصادي حقيقي يوفر فرص عمل حقيقية.
لكن الاستقواء بالرأي العام من خلال أرقام غير واقعية يضر أكثر مما يفيد، ويفقد مثل هذه القضايا أهميتها ومصداقيتها.

المرحلة القادمة تتطلب شفافية كاملة، وقواعد واضحة، وربط الدعم بالحقائق لا بالشعارات. فالوطن لا يُبنى بالأرقام الوهمية، بل بالمصداقية والالتزام والمسؤولية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى