مهندس غرسة العيادي

الكاتب/ مصطفى البعليش

لم يخرج المهندس هذا الصباح بعربته وهي محملة بالنعناع والخضروات و… وأنا الذي اعتدت مراقبته كل يوم نبتت في رأسي العديد من الأسئلة. فما اعتاد المهندس مخالفة عادته صيفا وشتاء. في الظهيرة كان دربنا يعج برجال الأمن ورجال المطافئ ورجال السلطة ورجال ونساء الإعلام غير الرسمي… إذاعات المقاهي والحمامات والأسواق…
“المهندس مات…”

“جبروه ف سانية…”
“كان سكران وطاح ف سانية…”
“لا… راه شناق راسو…”
“لا… را شي واحد قتلو…”
كثرت الأقاويل وغابت الحقيقة.
لا تستعجل صديقي القارئ، فأنا أتحدث عن رجل كان يشتغل في غرسة العيادي المحاذية بابها لباب منزلنا. هي غرسة كبيرة مرتبة في أشكال هندسية بديعة. ولعل هذا هو سبب مناداتنا لهذا البستاني أو الفلاح بلقب المهندس، ووسط هذه الغرسة يوجد بئر كبير جدا. استطاع أيام الجفاف أن يروي عطش نصف سكان أصيلة دون ان تصل الأسطل المتدلية فيه إلى قعره… كانت فوهته واسعة وكنا أو بالأحرى كان أولاد دربنا يسبحون فيه ويغطسون، وكان يسع سبعة سباحين دفعة واحدة… يرتمي فيه البعض وهم يفردون أيديهم كصقور، ويرتمي آخرون جاعلين أرجلهم تشق الماء… وكان للبئر سلالم حديدية يتسلقها الأولاد صعودا من البئر…

بعد وفاة المهندس الذي لم نكن نعرف له أهلا أو عائلة أو بيتا أو أولادا صارت الغرصة متاحة للجميع، صارت ملعبا لكرة القدم وساحة وغى لحروبنا ومرتعا لألعاب عديدة تكاد تنقرض حاليا، أو هي انقرضت بالفعل:
-مكيرزة… وهي حديدة نرميها داخل مربعات والفائز من يصوبها جيدا ويغرسها في التربة… ويتجاوز كل المراحل بتفوق..
-ساب سبوت… ينحني البعض ركوعا ويقفز الآخرون فوقهم وهي مراحل تزداد صعوبة مع الوقت… حيث يبتدأ براكع واحد وقد يصل الراكعون العشرة…
-صالبو طيح قلبو… وينقسم الأطفال فريقين… يتخد الفريق الأول جنوب الغرسة ويجرون في أنحائها وعلى الفريق الثاني أن يأسر جميع أفراد الفريق الأول ليربح…
هي العاب كثيرة لها أول وليس لها أخير…

لنعد إلى المهندس الذي جعلني أفتح عيني على فردوس… على قطعة من الجنة يشرف على رعايتها وصيانتها والاعتناء بها هذا الرجل القصير القامة الأدهم ذو اللحية الخفيفة لم يترك رأسه حافيا أبدا فهو إما بطاقية او شاشية… في الصباح يكون مثل نحلة نشاطا وخفة وجهدا واجتهادا والفأس أوالعتلة في يده يفتح السواقي ويشذب الأشجار ويزيل الأعشاب وفي المساء تجده يترنح لا تستطيع رجلاه ان تحملا جسده وتريد ان تقذف رأسه بعيدا لتتخفف قليلا من أثقالها…
كلام المهندس في الصباح همس يكاد لا يسمع وفي المساء لغو وهرطقة هادرة ولكن بلا معنى…
الخمر تلعب برأسه وتجعلنا نتعامل مع شخصيتين لا علاقة لإحداها بالأخرى…
تجعل إبليسه يظهر مثل ثعلب زفزاف ويختفي…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى