محمد مطر يكتب: لن يريح الرضى القلب الجريح
كغيري ممن يعشقون القهوة، احتساءً، وأنسًا، وملاذًا، وسكنًا، لما فيها من النوادر لأناس غير مرئيين، يتبادلون النكات وحكايات لا نقرأها إلا في كتاب الحياة، بلغته السلسة، بعيدًا عن لغة المثقفين، الذين عادة ما يستخدمون من الكلمات أكثر من اللازم، ليقولوا أكثر مما يعرفون.
وأول ما لفت انتباهي واقعيتهم، التي تخبرك دون تفلسف، بأنهم قرروا أن يتقبلوا عبثية الحياة، بعدما أصبح من العسير عليهم وعلى غيرهم، أن يعيشوا بشرف، وكرامة، وشجاعة، في مجتمع لا تزال تحكمه الكثير من الضلالات..
ودون وعي منهم صنعوا هذا الفصل الدرامي، ربما كان ذلك هو الطريق الوحيد ليجبروا أنفسهم على أزمة الوجود التي كانوا في أشد الاحتياج إليها…
بالرغم من أنه كان من السهل عليهم أن يضعوا أيديهم على أفواههم ولا يتكلمون، لكن من الصعب عليهم أن يضعوا أيديهم على قلوبهم كي لا يتألمون، فلن يريح الرضى القلب الجريح…
ومع استراحتهم من القلق ومما لا يستطيعون له تغييرا.. كتبوا أول سطر من سطور الحكاية….
للمرة الثالثة يقف الرجل في مواجهة القمر، يمسح وجهه بنظرة سريعة ثم يعود، ثم حوَّل نظره إليَّ وقال… أليس من الأفضل أن نعيش ولو حياة غير حقيقية من ألَّا نعيش أبدًا..
حالت بيننا دقيقة صمت، وبقيت أنظر إليه باستغراب واستدار الرجل ومضى إلى مقعده بعيدًا عنّي بأمتار قليلة، وجلس بتثاقل، يدير رأسه ببطء، يتأمل ما حوله، كأنه يبحث عن شيء ما، وربما عن أحد ما…
للمرة الرابعة.. يقف الرجل ويمسح وجه القمر بنظرة سريعة، ثم حوَّل نظره إليَّ وقال.. الآن وقد أظلم الليل، وأشرق وجه القمر، يتلألأ الخيال كنجوم الكون، أُحِسُ وما أحسبُ الإحساس إلا نقطة اتصال نورانية بالقلب وجمال الكون الذي يرضيني…
بعيدًا عن أشباه البهائم التي تضرب بأرجلها فتعكر ماء الحياة…
بدا لي أن هذا الرجل في حاجة إلى من يدعمه، فأخذت بأطراف الحديث مشاركًا، ولكن الحياة يا سيدي ليست نظامًا محكمًا يستطيع العقل تقرير أسسه وقواعده، بل مجموع مضطرب دائم التجدد والانهيار، وللحظ في تجدده وانهياره أثر كبير…
نظر إليَّ بامتعاض… إنك تتحدث بلغة الأوغاد الذين يقايضون الحرية بالأمان.
ألهذا تروح وتجيء نحو القمر كطفل عابث يريد أن يطول أبعد كوكب!!
ابتسامة تافهة، لكنها طاهرة، ما كان لمن جهل شيئًا أن يحكم عليه…
أيها القمر… كنت أود أن أخبرك بأن جميع من سبقوك قد خذلوني، أنت وحدك الذي لم أصنف علاقتي به، كنت الأكثر دائمًا، رفيقي الأكثر، قريبي الأكثر، حبيبي الأكثر، كنت أراك عالمي، وعافيتي، وضحكتي، حتى حين يأتي من يحدثني عن الكبرياء، والعناد، والاعتياد، والنسيان، كنت أحدثهم بأن لا شيء من هذا يحدث حين تكون أنت معي كنت أخبرهم دائمًا بأنك خارج حدود المنطق، ثم خذلتني قبل أن أخبرك…
لكنّي أرى في جانب من قلبك شعاعًا غريبًا، لست أعلمه؟!
لعمري.. لا أدري ما أمر ذلك الشعاع فلديه لغة صامتة بليغة، تفيض ألحانًا، كأنها أرواح تنير ظلمة الليالي الحزينة، أو قبلة من الآمال المحطمة، أو ابتسامة أخلدها الحب في قلبي…
أفتحزن!!!
آهٍ يا قمري..
ليس ثمة إنسان عاقل يتمنى أن يبقى واقفًا عند جراح مضت، حتى وإن كانت آثارها لا تزال ممتدة…
أتدري..
كل المعاناة مصممة لإعادتك إلى طريقك، فحين تكون حياتك على المحك تعرف قدر نفسك، وقدر من حولك…
وماذا عن أولئك الذين غابوا في الظلمات؟!
أكبر ظني أنهم يتبعون الوميض، حضروا عند وجود الحياة، وغابوا عندما مات السعيد، وقد تعاونت الأقدار من جميع جهاته على كشف غطائهم، فلم يكونوا على علم أن باختفائه يريد أن يكون موتًا للموت…
فهل أحزن على ما اشتريت به هناء نفسي، وعافية بدني، ودموعي ثمنًا لأكون في الخلد فجرًا…
كل شيء حدث قبل الآن، أنا فقط أعيد تشخيص الحكاية، حيث يمكننا أن ننظر إليها كما لو كانت رسالة وصلت بالخطأ ولا يمكننا استعادتها.
نهض من مقعده ومشى ملوحًا بيده، ويشير بإصبعه إلى السماء إياك أن تظن أنك عرفتني لمجرد أني تحدثت إليك…