المستشار. محمد سيد أحمد يكتب: قاعدة ” تفسير الشك لمصلحة المتهم
أن “البراءة” قيدت الاقتناع الجنائي “باليقين”. ولكن إذا كان “اليقين” هو الوجه الأول لأثر البراءة في الاقتناع الذاتي للقاضي، فإن “الشك” هو الوجه الثاني لهذا الأثر. والذي يعرف في الفقه الجنائي بقاعدة “تفسير الشك لمصلحة المتهم”.
وللوقوف على هذا الأثر،
نبحث هذه القاعدة على الوجه الآتي:
الفرع الأول / تأصيل قاعدة ” الشك للمتهم ”
الفرع الثاني / معيار ونطاق قاعدة ” الشك للمتهم ”
الفرع الثالث / نتائج تطبيق قاعدة ” الشك للمتهم ”
الفرع الأول / تأصيل قاعدة ” الشك للمتهم ”
إن الدعوى الجنائية، تستهدف تحويل الشبهة – والتي تعد أساساً لدفع الدعوى الجنائية إلى قضاء الحكم – إلى درجة اليقين القضائي، والتي تسمح بدورها إصدار الحكم بالإدانة، فإذا عجز الادعاء العام عن إقامة الدليل على وقوع الجريمة بعناصرها كافة وأركانها ونسبتها إلى المتهم، فإن ذلك يوجب على القاضي الحكم بالبراءة، إذ أن الشك الذي لا تستطيع سلطة الاتهام أن تبدده، يعد بالنسبة للمتهم والغرض براءته، دليلاً ايجابياً على عدم مسؤوليته. وهو ما يعبر عنه بالفقه الجنائي بقاعدة “الشك يفسر لمصلحة المتهم”(1). وتفسير ذلك يكمن في أن عدم قدرة أدلة الإدانة على أحداث القطع أو اليقين، يترتب عليه، استمرار حالة البراءة – الثابتة يقيناً على وفق أصل البراءة – والتي يكفي لتأكيد وجودها حينئذ، مجرد الشك في ثبوت تلك الإدانة، استناداً إلى ان البراءة أصل عام في المتهم مسلم بوجوده ابتداءً(2). فإذا كان الأصل في الإنسان البراءة، فإنه يجب لادانته أن يقوم الدليل القاطع على ارتكاب الجريمة، بحيث يقتنع القاضي اقتناعاً يقينياً بارتكابها وبنسبتها للمتهم، فإذا ثار شك لدى القاضي في صحة أدلة الإثبات، وجب أن يميل إلى جانب الأصل وهو البراءة، أي أن الشك يجب أن يفسر لمصلحة المتهم(3). فالدعوى الجنائية تبدأ في مرحلتها الأولى في صورة شك في إسناد واقعه إلى المشتبه فيه، وأن هدف إجراءاتها التالية هو تحويل هذا الشك إلى يقين، فإذا لم يتحقق ذلك بقي الشك، وهو عدالة غير كافية لإدانة الشخص، ومن ثم يكون القاضي ملزماً بإصدار حكمه ببراءة المتهم(4). فالبراءة لا تدحض إلا بيقين لا يعتريه شك، فإذا كان هناك احتمال واحد يفيد البراءة، فلا ينبغي على المحكمة الحكم بالإدانة، وإلا كان ذلك خطأ منها ومخالفة لقاعدة أن الشك يجب أن يفسر لصالح المتهم، والتي تعد على وفق ما تقدم – الوجه الآخر لقاعدة الاقتناع اليقيني للقاضي(5). وذلك كله استناداً إلى “أصل البراءة” الذي يفرض على القاضي بعض آثار تطبيق هذا الأصل في الدعوى الجنائية، مفادها أنه لا إدانة إلا باقتناع، ولا اقتناع إلا بيقين، ولا يقين إلا بزوال الشك. وبالبناء على ذلك جرى فقه الإجراءات الجنائية على اعتبار أن تفسير الشك لمصلحة المتهم هو نتيجة منطقية بل واحدى النتائج الايجابية لقرينة البراءة(6). وزاد البعض على ذلك – في صدد البحث عن مدى التزام القاضي بتطبيق قاعدة الشك – أن أهم ما تتميز به قرينة البراءة، أنها تقرر قاعدة إلزامية للقاضي، يتعين عليه أعمالها كلما ثار لديه الشك في الإدانة، فإذا خالفها واعتبر الواقعة محل الشك ثابتة، وقضى بالإدانة كان حكمه باطلاً، ويجوز أن يستند الطعن في الحكم إلى هذا السبب، وهو ما استقر عليه الفقه والقضاء والتشريع(7). فلا صحة للقول أن قاعدة الشك لا تعدوا أن تكون التزام أخلاقي فحسب بالنسبة للقاضي(
الفرع الثاني / معيار ونطاق قاعدة ” الشك للمتهم “
يبدو – مما تقدم – أنه لا خلاف في الفقه الإجرائي، بأن الأحكام في المواد الجنائية، يجب أن تبنى على الجزم واليقين، لا على الظن والاحتمال. وأنه يكفي لسلامة اقتناع القاضي ببراءة المتهم التشكك في صحة اسناد التهمة للمتهم. وتطبيقاً لذلك قضي بأنه إذا تبين أن الأدلة يشوبها الشك وتحيط بها الشبهات، فلا يحكم على المتهم بالإدانة، إذ الشك يفسر لصالح المتهم والحدود تدرأ بالشبهات(9). إنما يثور التساؤل والخلاف حول مدى أو درجة هذا الشك الذي لا يسمح بالإدانة؟ في الحقيقة، لا يوجد معيار واضح للإجابة على هذا السؤال، ووجه الصعوبة فيه أن الشك هو حالة ذهنية يصعب قياسها أو تعريفها، لأنها تتعلق بمعتقدات الشخص، وتصوراته الخاصة، وليست هناك أية وسيلة لقياس هذه المعتقدات أو التصورات الشخصية للإنسان(10). إلا أن البعض حاول تحديد هذا المعيار بالقول: أن أي شك – اياً كانت درجته – يتطرق إلى عقيدة المحكمة في ثبوت التهمة، يلزمها أن تقضي بالبراءة، مهما كان احتمال الثبوت ودرجته(11). فأي شك ينبغي أن يفسر لمصلحة المتهم(12). إلا أن الرأي الراجح في الفقه الجنائي المعاصر، يقرر بأن معيار الشك الذي لا يسمح بالإدانة يتمثل في قاعدة “الشك المعقول ” وهي تلك الحالة التي تترك القاضي بعد التروي والموازنة لأدلة الدعوى، في اعتقاد أو تصور ذهني، لا يستطيع معه القول بأنه وصل إلى درجة اليقين القضائي اللازم للإدانة(13). فكما أن الإدانة لا تثبت بوجود الشك، فإن البراءة لا تتأكد بتوافر أي شك أو الشك غير المعقول،
بل يلزم لتأكيد البراءة ودحض ما يفيد الإدانة، هو توافر الشك المعقول. لذلك يؤكد القضاء المصري، بأنه للقاضي أن يبني اقتناعه على ترجيح فرض على آخر ويحكم بادانة المتهم، ولا يطعن على ذلك بأن الترجيح يتضمن وجود شك فيجب أن يؤول لمصلحة المتهم، لأن الشك الذي يفسر لمصلحة المتهم هو بدوره مسألة خاضعة لتقدير القاضي، فلا جناح عليه إذا هو حكم على المتهم ما دام الشك قد استحال لديه إلى يقين(14). إنما يثور التساؤل في صدد البحث عن آثار قرينة البراءة في الدعوى الجنائية، فيما إذا كان بالامكان تطبيق قاعدة الشك – بعدها إحدى آثار البراءة – في مرحلة التحقيق الابتدائي، أم أن تطبيقها يقتصر على مرحلة المحاكمة؟. إن الهدف الأخير لجميع قواعد الإثبات الجنائي هو البحث فيما إذا كان من الممكن أن يتحول الشك إلى يقين، فالاتهام يبتدئ في صورة شك، فيما إذا كان شخص قد ارتكب جريمة وصار مسؤولاً عنها، وتستهدف قواعد الإثبات تمحيص هذا الشك وتحري الوقائع التي انبعث عنها، والقول في النهاية بما إذا كان قد تحول إلى يقين تبنى عليه الإدانة، ام أن ما أمكن الوصول اليه بتطبيق قواعد الإثبات لم يفلح في ذلك، فبقي الشك على حاله،
ومن ثم تستحيل الإدانة(15). بناء على ذلك – وعلى وفق مبدأ التدرج في معرفة الحقيقة القضائية – يمكن القول أنه في مرحلتي تأسيس الاتهام والاحالة – متمثلة في قضاء التحقيق في القانون العراقي – لا يفسر الشك لمصلحة المتهم، استناداً إلى ان الأدلة في هذه المرحلة لا تزال أصلاً في إطار الشك، إذ تقتصر مهمة قاضي التحقيق على مجرد فحص كفاية أو عدم كفاية الأدلة لإحالة المتهم إلى المحكمة(16). ويقصد بالأدلة الكافية في مرحلة التحقيق الابتدائي، بأنها الأدلة التي تسمح بتقديم المتهم للمحكمة ورفع الدعوى عليه مع رجحان الحكم بإدانته(17). اما في مرحلة قضاء الحكم، ينبغي على المحكمة أن تفصل فيما بدأت به الدعوى، من تشكك في قرينة براءة المتهم – في واقعة الاتهام – فإذا تحول الشك لديها إلى يقين قضائي، تحكم بالإدانة، وإذا بقي الشك في عقيدتها، تطبق قاعدة الشك،
فيعود المتهم إلى أصله البريء، فتحكم ببراءته. ومن جانب آخر – وفي اطار البحث عن نطاق تطبيق قاعدة الشك – يؤكد فقهاء القانون الجنائي أن مجال تطبيق هذه القاعدة يتمثل اساساً في الشك الذي يكون محله “الوقائع” وليس في الشك، الذي يكون محله “القانون”(18). فإذا كان الشك متعلقاً بمسألة من مسائل القانون، فلا أثر له ولا تأثير على مبدأ المسؤولية الجنائية، سواء أكان هذا الشك متعلقاً بالمتهم ام بالقاضي. فلا يقبل من المتهم الاعتذار بالجهل بالقانون، وكذلك لا يقبل القول – من القاضي – بوجود غموض أو شك أحاط بمضمون النص، للقضاء بالبراءة(19). وعلى هذا الأساس فإن قاعدة أن الشك يفسر لمصلحة المتهم، لا تجد لها مجالاً للتطبيق، إذا تعلق الامر بمسألة قانونية، يستوي أن يكون هذا الشك عالقاً بالمتهم أو قائماً في نفس القاضي. اما إذا كان الشك قد تعلق بمسائل محلها الوقائع، فينبغي تفسيره في المعنى الذي يكون في مصلحة المتهم، سواء كان هذا الشك موضوعياً – أي يتصل بماديات الواقعة الإجرامية – كأن تتساوى أدلة الاتهام مع أدلة البراءة ويصعب الترجيح بينهما، أو أن يكون هذا الشك شخصياً مصدره عدم اطمئنان القاضي لصدق الدلي
الفرع الثالث / تطبيق قاعدة ” الشك للمتهم “
بناء على العرض السابق لآثار البراءة، يمكن القول أن للبراءة عدة نتائج في اطار الدعوى الجنائية بعدها قرينة في حق المتهم، يتمسك استناداً اليها بالبراءة، ولعل من ابرز تلك النتائج تفسير الشك لمصلحة المتهم. وبارتباط آثار البراءة عموماً بقاعدة الشك خصوصاً، تبرز لدينا العديد من النتائج، نشير فيما يلي – بإيجاز – إلى أهمها:-
أولا / أنه في حالة الشروع في ارتكاب الجريمة، إذا كان البدء في التنفيذ، المكون للركن المادي للجريمة، يمكن أن ينطبق على عدة جرائم ذات جسامة مختلفة، فإنه يفترض أن المتهم اراد ارتكاب أقلها جسامة – تطبيقاً لقرينة براءة المتهم وتفسير الشك لمصلحته – ما لم يقم الدليل على انصراف قصده إلى ارتكاب غيرها(21). كما يترتب على تطبيق قاعدة الشك، تعديل الوصف القانوني للواقعة المبينة في أمر الإحالة والتي كانت مطروحة بالجلسة، إلى وصف قانوني آخر في صالح المتهم، إذا تعلق شك القضاة بعنصر من عناصر تلك الواقعة، كما لو استبعدت المحكمة نية القتل أو لم تطمئن إلى ان المتهم هو صاحب الضربة القاتلة، فعلى المحكمة أن تعطي الواقعة بالشكل الذي ثبتت به وصفها القانوني، في صالح المتهم(22).
ثانيا / إن اشتراط الحصول على الإجماع أو الأغلبية في إصدار الاحكام – ولاسيما أحكام الإدانة – في التشريعات الإجرائية المقارنة، يعد نتيجة منطقية لتطبيق تلك التشريعات لقرينة براءة المتهم متمثلاً في قاعدة الشك. إذ ينص قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي، على أن كل حكم في غير صالح المتهم لابد أن يكون مؤيداً بأغلبية ثمانية أصوات على الأقل من اثني عشر صوتاً. وفي النظام الانجليزي، يشترط للإدانة صدور الحكم بأغلبية تسعة إذا كان عدد المحلفين عشرة. أما في الولايات المتحدة الأمريكية فقد تطلب الدستور أن يصدر قرار الإدانة بإجماع الاثني عشر محلفاً(23). ويبدو أنه للسبب ذاته تصدر الأحكام والقرارات – على وفق القانون العراقي – باتفاق الآراء أو بأكثريتها(24). وتطبيقاً لذلك قضي بأنه عند انقسام هيئة المحكمة إلى رأيين متساويين، فيرجح الرأي الأصلح للمتهم(25). واتصالاً بذلك لا يجيز القانون المصري لمحكمة الجنايات ان تصدر حكماً بالاعدام، إلا بإجماع آراء اعضائها، ويعلل هذا بأن وجود عضو مخالف للحكم بالاعدام – يجب أن يفسر لصالح المتهم(26).
ثالثا / تظهر نتائج تطبيق قرينة البراءة – بعدها الأصل في وجود قاعدة الشك – جلية فيما يتصل بالتمييز بين حكمي الإدانة والبراءة.
ففيما يتعلق ببيان الأدلة، ومدى الاقتناع القضائي، يجب ان يستوفي حكم الإدانة مضمون الأدلة التي بني عليها، وأن يكون اليقين مبنى الاقتناع، بينما يكفي في حكم البراءة مجرد ابداء الرأي حول قيمة أدلة الإثبات، ويكفي للاقتناع أن يؤسس على الشك في هذه الأدلة(27). وإذا كانت الإدانة يجب ان تبنى على دليل مشروع، فإن الشك الذي تبنى عليه البراءة، يمكن أن يستند إلى دليل غير مشروع(28). كما لا يقترح في سلامة الحكم بالبراءة أن تكون احدى دعاماته معيبة، مادام قد أقيم على دعامات أخرى، إذ لا محل هنا لتطبيق مبدأ تساند الأدلة الجنائية في الإثبات، لأن الأصل في المتهم البراءة، كما ان المحكمة في حل من التقييد بقواعد الإثبات التي لا يتقيد بها القاضي إلا في مقام الإدانة(29).
رابعا / رغم النتائج السابقة، إلا أن النتيجة المباشرة لوجود الشك في ثبوت التهمة أو في نسبتها إلى المتهم، لعدم اطمئنان المحكمة للأدلة أو لعدم كفايتها، هي القضاء ببراءة المتهم(30). لأن وجود هذا الشك معناه أن اقتناع القاضي يتأرجح بين ثبوت التهمة ومسؤولية المتهم عنها وبين عدم ثبوتها، أي أن القاضي لم يدرك درجة الثبوت المشروطة لصدور الحكم بالإدانة – أي اليقين القضائي – فيصبح القضاء بالبراءة لازماً(31). ويستتبع الحكم بالبراءة وجوب الإفراج الفوري عن المتهم الموقوف استناداً إلى قرينة البراءة ولو استأنفت النيابة العامة الحكم(32).
خامسا / تقرر معظم التشريعات – تطبيقاً لقرينة البراءة وامتثالاً لقاعدة الشك – بأن إعادة المحاكمة في الأحكام الجنائية – وهو طريق غير عادي للطعن في الحكم – لا يكون إلا في الأحكام الصادرة بالإدانة وحدها(33)، وعلى ذلك لا تجوز اعادة المحاكمة في الأحكام الصادرة بالبراءة، ولو تبين أن ثمة خطأ قضائياً أفضى إلى صدور الحكم بالبراءة(34). بينما يقرر البعض بأنه يكفي تبريراً لطلب اعادة المحاكمة في حكم الإدانة احتمالية البراءة، أي مجرد الشك في الإدانة(35). وفي إطار الطعن بالأحكام، ينص المشرع المصري على انه لا يجوز لمحكمة الاستئناف أن تشدد العقوبة المحكوم بها من محكمة الموضوع، ولا إلغاء الحكم الصادر بالبراءة إلا بإجماع آراء قضاة المحكمة، إذ أن المخالفة في التشديد أو التجريم تدل على الشك في صحة ذلك، ومن ثم، ينبغي تفسير الشك لمصلحة المتهم، فلا يقر تشديد العقوبة ولا إلغاء حكم البراءة