شريف حسن يكتب : أعلام الصحافة والحج
هَلَ علينا ذى الحجة، شهر الحج والطواف بالكعبة المشرفة والسعى بين الصفا والمروة والاشتياق لزيارة البيت الحرام.. العتيق.. أول بيت وضع للناس لعبادة الله، ونعرض بعض ما سطره عمالقة الكتابة والصحافة ومؤلفات عدة فى تلك الذكرى العطرة الخيرة، أيام استجابة الدعوات والإكثار من التهليل والتحميد والتكبير فى شهر الحج..
كتب د. طه حسين – عميد الأدب العربى – عن الرحلة الحجازية قائلا: تركت زيارتي للحجاز آثاراً قوية رائعة في نفسي، لا يمكن أن تصور في حديث أو أحاديث، وحسبك أنها الموطن الذي أشرق منه نور الإسلام، ونشأت فيه الحضارة العربية الإسلامية. وما أعرف قطراً من أقطار الأرض أثر في عقول الناس وقلوبهم وأذواقهم كما أثرت هذه البلاد، وكما أثر الحجاز فيها بنوع خاص“، وعن مشاعره نحو مكة والمدينة هما المدينتان المقدستان اللتان تهوى إليهما أفئدة المسلمين: «من زارهما منهم ومن لم يزرهما، ولم أكن إلا واحداً من هؤلاء المسلمين الذين يزورون مكة والمدينة منذ شرع الله الدين الحنيف للناس».
وعن الحج ومناسكه تقول المفكرة والأديبة سناء البيسى فى مقالها «حجة الوداع»: عن عائشة: أَخَر النبي طواف يوم النحر إلي الليل.. أي أنه رخص بطواف الإفاضة في تأخيره إلي الليل.. وعن عائشة: «طيبت رسول الله بيدي هاتين حين أحرم، وكحلته حين أحل قبل أن يطوف وبسطت يديها».. «كنا نضمخ وجوهنا بالمسك المطيب قبل أن نحرم فنعرق فيسيل علي وجوهنا ونحن مع رسول الله فلا ينهانا»، «دخل الرسول الكعبة ما خلف بصره موضع سجوده حتي خرج منها إجلالا لله وتعظيما».. «طيبته بيدي قبل أن يفيض.. وأفاض رسول الله من آخر يومه حين صلي الظهر، ثم رجع فمكث بمني ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولي وعند الثانية فيطيل القيام ويتضرع، ثم يرمي الثالثة ولا يقف عندها»..«كنت أطيب رسول الله صلي الله عليه وسلم بعدما يذبح ويحلق قبل أن يزور البيت»..
وتسرد الأستاذة سناء البيسى فى مقالها الجامع والشامل عن حجة الوداع قائلة: بعدما توضأ الرسول بدأ بالحجر الأسود فقبله بينما فاضت عيناه بالدموع.. وفي اليوم الثامن قام إلي وادي مني فصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وفي اليوم التالي اعتلي ناقته القصواء وسار إلي جبل عرفات بعد صلاة الفجر، حيث احتشد الحجاج يرددون علي سفوح الجبل الصخرية لبيك اللهم لبيك.. لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك.. لا شريك لك.. يقول فيقولون: إن لصوته رنة من السماء فيعاود القول: إنما أنا بشر مثلكم فيقولون: إن في وجهه نورا من الغيب، ويده تمس الصخر فينفجر منه الماء فينهي الناس أن يضيفوا إليه ما ليس له: إنما أنا بشر يحب الطيب والنساء وقرة عينه في الصلاة.. بشر جاء بمكارم الأخلاق، وإنه ليضحك ويبكي ويأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ويستشير لكيلا يخطئ، وينزل عند رأي الغالبية، بشر من لحم ودم وأعصاب يغضب ويرضي، ويرفض أن يقبل يده أحد.. بشر لا يفجر الماء ولا يضيء الظلمات، فلا تقولوا له سيدنا فإنه ليغضب منها وينهي عنها.. بشر كالآخرين، وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل… ويرفع محمد صوته لكنه لا يبلغ جميع الأسماع فيأمر أحد الذين بجواره ترديد قوله، وليردده ثالث، ورابع، وآخرون حتي يسمع الناس جميعا.. وتلتاع الأفئدة مما يقوله في مستهل خطابه: اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا.. وفي خطبته يوصي بالنساء خيرا، ويحذر من الشيطان، ويعدد الأشهر الأربعة الحرم، ويحرم الربا، ويؤاخي بين العبيد والسادة، وبين المساكين والملاك الكبار، ويجعل من الصدق والأمانة والوفاء دستورا للعلاقات بين الناس، ويضع كل بريق خاطف زائف تحت الأقدام.. ويؤكد دائما علي أنه بشر.. كالآخرين.. ويختم خطبة الوداع بقوله: فاعقلوا أيها الناس قولي، فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا: كتاب الله وسنة رسوله. أيها الناس تعلموا: إن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين أخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم.. وينادي النبي الكريم قومه: اللهم هل بلغت؟! فيجيبه المائة ألف حاج بصوت واحد يفيض إجلالا وإيمانا: اللهم نعم.. فقال الرسول: اللهم فاشهد.. وفي موضع آخر من عرفات يقال له الصخرات، ويتميز بألواح صخرية ضخمة نزل علي الرسول الوحي علي حين غرة، فكاد عضد ناقته يندق من ثقل الوحي الذي نفذ بالآيات البينات إلي قلب صاحبها، فوقعت علي ركبتيها، وها هي ذي كلمات العلي القدير التي نزلت ختاما لخطبة الرسول تعلن أن رسالة محمد قد انتهت: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا».
وتكتب عائشة عبدالرحمن «بنت الشاطئ» عن مكة والروحانيات العذبة بقولها «الناس عندما يسعون إلي البيت العتيق محرمين متطهرين خاشعين قانتين وقد تجردوا من كل زينة وجاه وزهرة، وقد طرحوا عنهم ما يتفاخرون به من أزياء وألقاب ورتب ومناصب، وتخففوا من الأثقال المادية التي تند روح الإنسان وتخنق فيه هيامه الفطرى بالحق والخير والجمال وجاءوا لبيت الله الحرام في زى الإحرام شبه عراة وشبه حفاة، وتماحت بينهم فروق الألوان والأجناس والطبقات والدرجات فليسوا جميعا سوى عباد الله تعالي وما يتفاضلون إلا بالتقوي وتتجلى فيهم وبهم الآية المحكمة «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، وبصوت واحد فى حرم البيت العتيق يعلون الهتاف «لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك».
ويحكى عباس محمود العقاد عن الرحلة الحجازية إلى حمام الحرم عام 1946 قائلا: «سمعت بهذه الخاصة في حمام البيت قبل أن أراه، فلما رأيته في طواف العمرة وطواف الوداع تحريت أن أتعقبه في كل مذهب من مذاهب مطاره فإذا هو كما سمعت يطوف ولا يتعدى المطاف إلى العبور، وقد شغلني أن أتيقن أولا من تطابق الأقوال على اطراد هذه الظاهرة، وأن أجرب حماما غير حمام الحرم لأرى كيف يطير إذا أطلق في جوانب الكعبة وحده، وأن أجرب طيراً غير الحمام من القماري أو العصافير أو فصائل اليمام، لان الجوارح قد يصرفها النظر إلى فرائسها عن تحقيق التجربة بما يفيد الحرية في اختيار جو الطيران، ولكن الطير يسقط حيث يلتقط الحب ولا يقصر طيرانه على مواضع التقاطه، فإذا كان حمام البيت قد تعود أن يلتقط غذاءه في المماشي التي حول الكعبة فليس ثمة ما يمنعه إذا صعد في الجو أن يتجاوز تلك المماشي إلى ما جاورها، وهو قريب من قريب، كما أوصيت بعض رفاقنا أن يرقبوا هذه الظاهرة في زياراتهم المتعددة، وهم يزورون البيت متفرقين حسب النوبة التي يفرغون فيها من العمل في اليخت أو في الطوافتين. فلما عادوا جميعاً كُفيت مؤنة التجربة أو التجارب الكثيرة التي كان لا بد لنا منها قبل التيقن من تلك الظاهرة وتعليلها بما يكشفها على جليتها، لأن ثلاثة منهم اتفقوا على أنهم شاهدوا الحمام يطير أحياناً فوق الكعبة وإن لم يكن ذلك مطرداً في جميع الأوقات.
جمال المعنى يتمثل في حمام الحرم الذى لا ينقص ذرة بطيرانه هنا أو طيرانه هناك، ولم يزل للحمام نصيب من القداسة أو الطهارة منذ آمن الناس بالدين، فقربان الحمام مفضلا في شريعة موسى على القرابين من سائر الطيور، والإغريق يتقربون إلى الزهرة ربة الحب عندهم بالحمام الأبيض أو باليمام وما إليه ولا يزال أناس من المعاصرين يعتقدون في الحمام اعتقاد الأقدمين الذين زعموا أنه أقدر الطير على استجابة داعي العشق والغرام، وأنه من ثم طعام صالح للأزواج وهدية صالحة في الأعراس.. فقال المعرى:
أبكت تلكم الحمامة أم غنت … على فرع غصنها المياد
ظلم الحمامة في الدنيا وإن حُسبت … في الصالحات كظلم الصقر والبازي
ويقدم الكاتب والمفكر الفلسطينى أحمد دلول فى روايته عن رحلة الحج قائلا: على طريق الحج يمر الغريب “بالتائه” الذى انزوى فى كهفه العلوى، بعيدًا عن الناس، لكى يجد وسيلة للارتقاء بالإنسانية، فلم يجدها إلا بالفلسفة، حيث يحل بعد ذلك برد مفاجئ، ويهيم الغريب ناشدًا الدفء، فيبحث عمن يستطيع أن يضرم النار، أو يمنحه قبسًا منها، إلى أن يلتقى “بالراعى” الذى يخبره بأنه (لا يشعل النار إلا الخمرة والنساء)، فيقتفى أثر الراعى وصولاً إلى مضارب النساء، حيث كان لا بد من فهم الأنوثة بذاتها للتعفف عنها، فى بحث يتم فيه الغوص فى أعماق المرأة بغية فهمها“.
ويعرض الروائى جمال الغيطانى فى كتابه «حمام الحمى.. يوميات الحج» خواطر وذكريات عن طواف القدوم والوداع والسعى إلى الله والوقوف بين يدى الله فوق عرفة والنفرة الكبرى والرجم والإقامة بمنى.
ومؤلفات أخرى منها كتاب للدكتور نجيب باشا محفوظ رائد طب النساء والتوليد «حكاية طبيب»، والرحالة الفرنسى «جول جرفيه كورتيلمن» فى كتاب «رحلتي إلي مكة»، والطبيب الفرنسى فيرمان دوغيه فى كتابه «الحج إلى مكة من وجهات نظر دينية واجتماعية وصحية»، والرحالة المغربى الفقيه «محمد بن أبى بكر الحيونى» فى مقال بعنوان «جوانب من الحياة الاجتماعية والاقتصادية بمكة والمدينة»، وأنيس منصور في كتابه «أيام فى الأراضى المقدسة» ويسرد فيه رحلته إلى بلاد الحجاز وأداء المشاعر المقدسة، وعائشة عبدالرحمن – بنت الشاطئ ـ لها كتاب شامل وجامع عن «أرض المعجزات»، ويسرد المازنى في كتابه «رحلة إلى الحجاز» تفاصيل رحلته الإيمانية إلى أرض الحجاز لأداء مناسك العمرة عام 1930، ضمن بعثة وصفه الكاتب فى كتابه برحلة الأفندية والبكوات نسبة إلى مرافقيه منذ الصعود إلى السفينة وحتى نهاية الرحلة بطريقة مرحة وسلسلة وبسيطة.
ويقول صلاح منتصر في كتابه «طيور مكة»: «فى لحظة تأمل توقفت عيناى علي مشهد الطيور الصغيرة التي تحوم وتحلق فوق رؤوس الآلاف في صحن الكعبة، حاولت أن أضبط طائرا واحدا فقط يطير فوق بنيان الكعبة نفسها أو من فوق سقفها، عيناى مثبتتان على كل طائر، وأتابع جناحيه وهو يقترب من حدود سقف الكعبة العلوى وأقول لنفسى خلاص هذه المرة سوف يفعلها ويمر وقبل أن يدخل سماء سقفها أراه يستدير بجناحيه ويبتعد يمينا أو يسارا أو خلفا، كأن جدارا خفيا عاليا يراه ولا أراه أنا أو غيرى.. سبحانك يارب علمت الطير ما لم نعلم، وأريته ما لا نراه، وسيرته بمشيئتك وحدك».. «عندما زرت لأول مرة البيت العتيق كانت فى خيالى صورة ضخمة عن الكعبة، إنها قبلة المسلمين فلابد أنها بناء ضخم عملاق، فوجئت بصغر حجمها وبساطة الشكل الهندسى المبنية به، ثم فى كل مرة كنت أزورها كانت تكبر فى عينى وتكبر وتكبر»، «أفكارى تحلق وترتفع أجنحتها مثل كل الطيور في الصحن الملىء بآلاف الطائفين والمصلين والمسبحين اقترب من جدار بيت الله ثم أدور بأجنحتى مرتدا وأركع ساجدًا، لقد تساوينا جميعا – طيور السماء وطيور الأفكار – وأمام جدران بيته المتواضع خررنا راكعين ساجدين متوسلين إليه».
ويسرد في كتابه القيّم والشامل عن التوسعات فيقول: «التوسعات ليست مسألة أرض فضاء يتم تمهيدها وتغطيتها، فهناك مشروعات تكييف هواء للحرمين ومحطات تكييف ودورات مياه وأماكن للوضوء، فالإدارة والنظافة والنظام ظواهر واضحة تلمسها أينما ذهبت والشوارع المحيطة رغم مئات الآلاف من الزوار الذين يتدفقون على المكان، ولعبت وسائل المواصلات دورا كبيرا فى زيادة الأعداد».
ويسجل فيلسوف البسطاء أنيس منصور عن رحلة الحج قائلا: «جاءت فكرة أداء الحج، ووافقت دون تفكير، وفى الطائرة ومع الناس ومع أصوات الملبين أحسست أننى فى مسجد فى السماء، وأن أصوات الناس وهم يقولون: لبيك اللهم لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك.. لا شريك لك لبيك»، كأن شيئا من دفء يتسلل إلىَّ، ثم حرارة ثم كهربة، فارتعاشة وزلزلة، ولم أشعر بصوت المحركات ولا بالوقت، وفجأة نزلت الطائرة فى مطار جدة عند الفجر، ولم أسأل نفسى ولماذا هذا اللبس بالذات، سؤال بلا معنى فهذه الملابس لها معانٍ كثيرة فنحن نتجرد من كل شيء، لنكن أمام الله عراة، مجردين من الملابس والشهوات والمخاوف، نتساوى جميعا، من يجد الثوب ومن لا يجده وفى ذلك طاعة وامتثال».