جمال عبدالمعبود يكتب: شعوباً وقبائل
ولأننا فى ايام مباركة تفوح منها عبق الرحمات التى يستنزلها الله على عباده لتلهم الانسانية أجمل المشاعر التى إن اتبعناها تحقق بنا حكمة الخالق فى تعمير الارض والتعارف بين الشعوب والقبائل اى تجسيد الخير والعدل والجمال فى الكون مع الاحترام الكامل لخصوصية الناس من تعدد الأجناس والألسن والعقائد والخبرات ولو اراد الله سبحانه وتعالى توحيد الاعراق والاجناس والديانات لما قصرت ارادته عن فعل ذلك ولكن لحكمة لانعملها أرادنا كما نحن مختلفين حتى بين الاسرة الواحدة سواء فى مستوى التفكير او المواهب التى حبانا الله بها
وهذا ما لم يستوعبه امراء الدم عندما نصبوا انفسهم أوصياء على عباد الله فتعمدت افكارهم وافعالهم بالدم والتنطع فى تعاليم الدين الأسلامى وهو براء منهم لأنه دين الرحمة التى جعلت قلوب بدو الجزيرة العربية تلين وتنقاد للرسول صلى الله عليه وسلم وتتبدل قيمهم من اعمال السلب والنهب والؤد وعبادة الاصنام الى حمل رسالة الحضارة الاسلامية من الحجاز الى العالم
ولم تكن القوة هى التى نشرت الاسلام بل مبادئه الاخلاقية وعلى رأسها الرحمة فليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا فلم ينتشر المسلمين حول الكرة الارضية بإمكانياتهمم العسكرية فقط لأنها لم تكن كافية للسيطرة على العالم من الصين شرقاً الى (بحر الظلمات) المحيط الاطلسى غرباً ولكنهم امتازوا بالعقيدة الاخلاقية السمحة التى جعلت الاسلام يستمر فى الامصار البعيدة عن مركز الخلافة عندما داهمت عصور الضعف الحضارة الاسلامية فلم ترتد شعوبها عن الدين الاسلامىى ولم يكن جيش عمرو بن العاص(3500-4000 جندى) يكفى لفتح مصر لولا ان أقباط مصر رغبوا فى التخلص من الاستعمار البيزنطى مع ضمان حرية العقيدة والعبادة للشعب المصرى ولم يدخل الاسلام سمرقند بقوة جيشه بل لإلتزام الجيش بأمر القاضى الشرعى المسلم بإخلاء المدينة من المظاهر الأسلامية المسلحة لان قائد جيش المسلمين ارتكب خطأ جسيماً لأنه لم يعرض على دهاقنة المجوس الاسلام او الجزية او الحرب وتعجل احتلال سمرقند لسبب عسكرى تكتيكى قبل إتمام عملية التخيير التى نص عليها كتاب الله
فكان حكم القاضى بخروج جيش المسلمين من سمرقند واعادة الاجراءات الشرعية من التخير فكانت النتيجة على غير المتوقع بإعلان البلدة اسلامها بمحرد خروج الجيش تقديراً لموقف الشرع لتبقى سمرقند حاضرة المسلمين فى وسط اسيا الى الآن بالرغم من تراجع المسلمين عسكرياً وسياسياً واقتصادياً ولكنهم ظلوا محتفظين بعقيدة الرحمة التى توافق الفطرة الانسانية السليمة وبداية من القرن الثالث العشر تتحقق معجزة إعتناق المغول للإسلام وهم البدو الرحل الاجلاف الذين افتخروا بأن بيوتهم هى ظهور خيولهم التى زحفوا بها من الصين الى وسط اسيا مدمرين كل شىء يعوق تقدمهم لإحتلال العالم ويهددون اوربا من البلغار والجراكسة والارمن والروس و يقضوا على الخلافة الاسلامية بعد قتل الخليفة وحرق بغداد وإلقاء كتب دار الحكمة فى نهر دجلة لتكون معبراً لجيوش التتار الى الشام مخربين ومحرقين كل المدن والقرى التى تقع فى طريقهم كاالجراد النهم الذى يترك البلاد خاوية على عروشها متبعين سياسة الارض المحروقة من قتل ونهب وترويع للآمنين لبث الرعب فى شعوب معاركهم القادمة ليستسلموا دون مقاومة وُيخدعوا بعهد امان لايحترمه المغول فيصنعون من جماجم هذه الشعوب تلالاً يتحاكى بها الظاعن والباد وبرغم تفوقهم العسكرى لم يكونوا اصحاب حضارة فلم تولع الشعوب المهزومة بتقليدهم مثلما يحدث دائماً من تقليد المهزوم لمحتليه بل افتتن المغول بالحضارة الاسلاميه واعتنقوا الدين الاسلامى لينشأوا ممالك اسلامية مغولية فى شبه القارة الهندية وتعرف حقبتهم بسلاطين المسلمين (الخانات) المغول الذين تبدلت طباعهم من بدو رحل الى الاستقرار والاعمار وهم الذين لم يعرف عنهم ميلاً للتحضراو البناء ولكن بعد اعتناقهم الاسلام اذدهر بينهم العدل والرحمة ولانت قلوبهم فبرغم تسيدهم على الهند ضمنوا حرية العقيدة فلم يبيدوا الهندوس او يمنعوهم من طقوسهم بل تنافسوا فى انشاء الحواضرو قربوا العلماء لدرجة احتكار بعض السلاطين لجهود العلماء مقابل مخصصات مالية تضمن رفاهية العلماء ليتفرغوا لابحاثهم التى كانت تُهدى للسلطان عادةً فكانت سبباً فى اذدهار العلوم الطبية والفلسفية والهندسية ورقت مشاعرهم بما يليق بدين الرحمة
فبنى السلطان شهاب الدين بن محمد بن نور الدين شاه جهان تاج محل احد عجائب الدنيا السبع تخليداً لذكرى زوجته الاثيرة *ممتاز محل* بالاضافة لبناء المساجد الجامعة والمدارس والمستشفيات فأضحى برابرة الامس اصحاب حضارة اسلامية انسانية راقية ذات رسالة انسانية خالدة تعتمد سياسة التنوع العرقى فلم تضيق الخناق على الهندوس او تفرق بين البورمى والبنجابى ضاربة المثل الاعلى فى التعايش السلمى والاخاء مسطرين تاريخاً ناصعاً قد اُسدل عليه بحجاب كثيف وحيل بيننا وبين معرفته مع انه لم يكن تاريخاً هزيلاً بل كان تاريخياً عملاقاً استمر لقرون عديدة وصنع حضارة هى من ازهى الحضارات الانسانية التى عرفتها عواصم البلاد الاسلامية يوم ان كانت هذه العواصم هى التى تصنع التاريخ والحضارات المهداة للانسانية جمعاء
ووصلت من القوة الى الحد الذى ظل فيه سفير جيمس الاول ملك انجلترا فى الهند ينتظر سنتين لمقابلة الملك جهانكير فلم يظفر بما يريد وعندما تضرع لأن يأخذ فقط خطابا الى ملكه رد عليه الوزير الاول قائلاً (انه مما لايناسب قدر ملك مغولى مسلم ان يكتب جواباً الى سيد جزيرة صغيرة يسكنها صيادون بائسون ) حدث ذلك اوائل القرن السابع عشر إبان تأسيس شركة الهند الشرقية لتحكم وتدير الهند حتى تسليم الحكم الى الحكومة الانجليزية فى عهد الملكة فيكتوريا 1858م وقتئذ اندلعت ثورة شعبية قوبلت بقمع منقطع النظيرضد المسلمين لخصه *مستر دى لين* مدير جريدة تايمز اوف انديا فى العدد المطبوع 1858 م(كان المسلمون يُقبض عليهم ويحاطون بجلود الخنازير او يدلكون بشحومها ثم يحرقونهم وهم احياء كما كان يجبر أهل الهند على ان يفعل احدهم الفاحشة بزميله وهذه التصرفات ستظل وصمة عار على جبين الانجليزلن تُمحى على مر الايام)
هذا هو الفارق الحضارى بين قيم الرحمة والانتقام البربرى ولم يكن فتح الاندلس غزوة عسكرية بل نشر للحضارة والعلم مغلفاً بروح التسامح وحرية العقيدة فعاش الاسلام مع المسيحية واليهودية واختلطت الدماء بالتزاوج وطُبق الامر الالهى لااكراه فى الدين مما ساعد على التنوع الفكرى الراقى لتصبح حواضر المسلمين قبلة العلم والفكر والابداع مماجعل قرطبة قبلة العلم واشبيلية معقل الفنون فى كل اوربا لان حرية العقيدة كانت هى سر الخلود للحضارة الاسلامية التى حاول امراء الدم والجهل ان يختزلوا الحضارة الأسلامية فى سيف ونطع بالرغم من ان التنوع كان هو مفتاح عبقرية هذه الحضارة فأنتجت رموزها التاريخية الغير مرتبطة بعرق او بلد او أصل او حتى دين لذا برز ابى حنيفة فى الفقه وفى الفلسفة والطب برز يهودياً مثل موسى ابن ميمون وفى الطب مسيحياً سورياً مثل بختشوع وفى القيادة العسكرية امازيجياً مثل طارق بن ذياد وفى التصوف مصرياً نوبياً هو ذو النون المصرى وفى السياسة والحرب كردياً كصلاح الدين الأيوبى وفى علم التاريخ مملوكى رومى هو ابن تغرى بردى ولهذا خلقنا الله شعوباً وقبائلاً