الدكتور عادل اليماني يكتب: فَلَا يَقُومُ سِوَى الْعَافِي عَنِ النَّاسِ ..
يُحكى أن أحدَ الأمراء ، احتجزَ في إحدي المعارك ، مجموعةً من الأسرى ، ولما أرادَ أن يقتلَهم ، نظرَ إليه أحدُهم ، وطلبَ منه أن يُطعِمَهم ، ويسقيَهم ، قبلَ قتلِهم ، فعلي الفور ، أمرَ الأميرُ بإحضارِ الطعامِ والشراب، فأكلوا وشربوا وشبعوا ، ثم قالَ القائلُ نفسُه :
أيها الأميرُ ، أطالَ اللهُ بقاءَك ، لقد كُنا أسراك ، والآن صِرنا ضيوفَك ، فانظرْ ما تفعلُ بضيوفِك ؟ عندئذٍ قال لهم الأميرُ : قد عفوتُ عنكم .
غضِبَ هارون الرشيد ، على رجلٍ ، فهمَّ بعقابِه ، فقال له الرجلُ : يا أميرَ المؤمنين ، أسألُك بالذي هو أقدرُ على عقابِك ، منكَ على عقابي ، فعفا عنه الرشيد .
سبَ أحدُهم أعرابياً ، وقالَ له ، يا أعرابيُ ، هأنذا ، أسبُك وأشتُمك ، فقال الأعرابيُ ، يا هذا ، لا تُغرق فيَّ سباً ، ودعْ للصُلحِ موضعاً ، فإني أبيتُ مشاتمةَ الرجالِ صغيراً ، فلن أفعلَها كبيراً ، وإني لا أُكافيُ من عصي اللهَ فيَّ ، بأكثرَ من أن أُطيعَ اللهَ فيه ..
هو العفو ، ياسادة ، تلك القيمةُ المجتمعيةُ الإنسانية ، التي بها تعمُرُ البلادُ ، وتستقيمُ أحوالُ العباد ..
شيمةُ الكرام ، وخُلق الأبرار الأطهار ، وسُنةُ الأنبياءِ والمرسلين ، وهذا سيدُهم ، صلي اللهُ عليه وسلم ، يأتي مكةَ فاتحاً ، ويقولُ لمَنْ ظلموه ، وآذوه ، وأخرجوه : ما تظنون أني فاعلٌ بكم ، قالوا خَيْرًا ، أَخٌ كَرِيمٌ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ ، قَالَ : فَإِنِّي أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ..
إذن : اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ !!
هكذا طُلقاء ، بلا انتقام ، بلا عقوبة ، بلا تعويض ، بل ، بلا حتي قدرٍ من المهانة !! نعم بلا هذا كلِه ، فهو العفو عندَ المقدرة ، وأولى الناسِ بالعفو ، أقدرُهم على العقوبة ، فليس الحليمُ مَنْ ظُلِمَ فحلم , حتى إذا قدرَ انتقم , ولكنَّ الحليمَ مَنْ ظُلِمَ فحلم , حتى إذا قدرَ عفا ، كان قادراً ، صلي اللهُ عليه وسلمَ ، أن يخسفَ بهم الأرضَ ، كان قادراً أن يجعلَهم عبرةً للبشرِ جميعاً ، لكنه عفا وأصلح ، ليبني أمةً قويةً متماسكة ، وليضربَ لنا أعظمَ الأمثالِ ، في بناءِ الأمم ، وتقدمِ المجتمعات ، وكان منهاجُه دوماً ( ص ) اللهم اغفرْ لقومي ، فإنهم لا يعلمون ..
فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ..
ماهذهِ المكانةُ الرفيعةُ ، يا رب ؟! أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ، تخيلْ لما يكونُ الأجرُ من الله ، والعطاءُ من الله ، هُنا لابد أن نذكرَ فوراً : بغيرِ حساب !!
ولهذا المقامِ العظيمِ ، شرطان : العفو ، أي الصفح والتسامح ، ثم الإصلاح ، بمعني ، كأن شيئاً لم يكن ، ولا يبقي أثرٌ في النفوس ، فكثيراً يعفون ، لكنهم يستمرون في كراهيةِ مَنْ ظلموهم ، وهذا مفهومٌ طبعاً ، بل ومُقَدر ، أما أن تتحولَ هذه الكراهيةُ إلي تطبيعٍ ، أو ( ودٍ ) ، فهذا شأنٌ آخرُ ، يختلفُ كثيراً ، لا يقوي عليه إلا من صفتْ نفوسُهم ،
وعَمُرتْ قلوبُهم ..
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ..
نزلتْ الآياتُ المباركاتُ ، في الصديقِ أبي بكر ، رضي اللهُ عنه وأرضاه ، لما أقسمَ ألاّ يُنفقَ على ابن خالتِه ، مسطح بن أثاثة ، لأنه تكلمَ في عِرضِ ابنتِه ، التقيةِ النقية ، أمِ المؤمنين عائشة ، رضي اللهُ عنها وأرضاها ، المبرَّأةِ من فوقِ سبعِ سماوات ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللهِ! إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي ، فَأعادَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُها عَلَيْهِ، وَقَالَ : وَاللهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا .
وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ،
تأملْ ، الله يُحب ، وليس اللهُ يغفر ، أو اللهُ يعفو ، وأيُ مكانةٍ للعبد أعظم من حُبِ اللهِ تعالي له ..
خُذِ الْعَفْوَ ، أمرٌ من الله ، وتوجيهٌ منه جلتْ قدرتُه ، لأنه سُبحانه ، الأعلمُ ، بما هو أصلحُ وأنفعُ للناس ..
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، أي قابلِ الإساءةَ بالإحسان ، وهذه ليست حسنةً فقط ، وإنما : التي هي أحسن !
لقد قصوا علينا حكايةَ التاجرِ ، الذي كان يداينُ الناسَ ، فإذا رأى مُعسراً ، قالَ لفتيانِه ، تجاوزوا عنه ، لعل�اللهَ أن يتجاوزَ عنا ..
هل يُنقِصُ العفو من مكانتِنا ؟ إطلاقاً هل يُضيعُ العفو ، حقوقَنا ، إطلاقاً
هل ردُ الإساءة بالإساءة قوة ؟ إطلاقاً
العفو ليس ضعفاً ، إنما منتهي القوة ، ونحنُ كثيراً ما نرى الأشياءَ على غيرِ حقيقتِها ، لأننا نكتفي بقراءةِ العناوين ، فالعفو ، وإن كان ظاهرُه ضيماً وذلاً , فإن باطنَه وحقيقتَه عزٌ ومهابة ، فما زادَ اللَّهُ عَبْدًا بعَفْوٍ، إلَّا عِزًّا ، كما أن الانتقام ، ليس قوةً ، علي الإطلاق ، ولذتُه لا تدومُ إلا قليلاً ، أما الرضا الذي يوفرُه العفو ، فيدومُ إلى الأبد ..
كُنْ قَابِلَ الْعُذْرِ، وَاغْفِرْ زَلَّةَ النَّاسِ ..
وَلَا تُطِعْ يَا لَبِيباً أَمْرَ وَسْوَاسِ ..
فَاللهُ يَكْرَهُ جَبَّاراً يُشَارِكُهُ ..
وَيَكْرَهُ اللهُ عَبْداً قَلْبُهُ قَاسِي ..
هَلَّا تَذَكَّرْتَ يَوْماً، أَنْتَ مُدْرِكُهُ ..
يَوْماً سَتُخْرِجُ فِيهِ كُلَّ أَنْفَاسِ ..
يَوْمَ الرَّحِيلِ عَنِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا ..
يَوْمَ الْوَدَاعِ شَدِيدَ الْبَطْشِ وَالْبَاسِ ..
وَيَوْمَ وَضْعِكَ فِي الْقَبْرِ الْمُخِيفِ .. وَقَدْ رَدُّوا التُّرَابَ بِأَيْدِيهِمْ وَبِالْفَاسِ..
وَيَوْمَ يَبْعَثُنَا، وَالْأَرْضُ هَائِجَةٌ..
وَالشَّمْسُ مُحْرِقَةٌ، تَدْنُو مِنَ الرَّاسِ ..
وَالنَّاسُ فِي مُنْتَهَى جُوعٍ، وَفِي ظَمَإٍ ..
وَفِي شَقَاءٍ، وَفِي هَمٍّ وَإِفْلَاسِ ..
يَفِرُّ كُلُّ امْرِئٍ مِنْ غَيْرِهِ فَرَقاً.. هَلْ أَنْتَ ذَاكِرُ هَذَا الْيَوْمِ أَمْ نَاسِي؟!
سَيُرْسِلُ اللهُ أَمْلَاكاً مُنَادِيَةً ..
هَيَّا تَعَالَوْا لِرَبٍّ مُطْعِمٍ كَاسِي ..
هَيَّا تَعَالَوْا إِلَى فَوْزٍ وَمَغْفِرَةٍ ..
هَيَّا تَعَالَوْا إِلى بِشْرٍ وَإِينَاسِ ..
أَيْنَ الذِينَ عَلَى الرَّحْمَنِ أَجْرُهُمُ ..
فَلَا يَقُومُ سِوَى الْعَافِي عَنِ النَّاسِ ..