يوسف زيتوني يكتب: محوران لفهم شهر رمضان
أمرنا الله تعالى بالإحسان- الذي يعني الإجادة والإتقان- في قوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}؛ وكتب الله الإحسان على كل شيء، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله كتب الإحسان على كل شيء”. بيد أن الإنسان لا يحسن التعامل مع ما لا يفهمه، فالفهم الصحيح هو شرط بلوغ مرتبة الإحسان في العمل، وبغيره يصير العمل تقليدًا، بغير فهم ولا وعي: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}.
من أجل ذلك وجب علينا، ونحن نعيش أيام وليالي شهر رمضان المبارك، أن نفهم معنى رمضان، ونعي مراد الله تعالى منه، وغاية المسلم فيه، كأول وأهم خطورة على طريق الإحسان في التعامل مع الشهر الفضيل.
ونستطيع فهم شهر رمضان بشكل بسيط على محورين:
المحور الأول، الاصطفاء:
الاصطفاء من أهم مظاهر وحدانية الله تعالى، فكما تفرد سبحانه بالخلق تفرد أيضا بالاختيار والاصطفاء: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ}، ولا أحد يختار على الله تعالى: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ} فوجب على الناس تعظيم ما عظمه الله وتقديس ما اختاره الله تعالى لهم، كون ذلك من علامات التوحيد وأمارات الإيمان ومن تقوى القلوب: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}.
ولمّا اختار الله تعالى من الزمن شهر رمضان، كان تعظيمه والاعتناء به والتعرض لنفحات الله فيه، دليلا على تعظيم الله وحسن الإيمان به، ويكون إهماله دليلا على عدم توقير الله وإهمال الإيمان بالله.
ينبغي على المسلم أن يفهم اصطفاء الله على أنه توجيه رباني إلى الأصل الإيماني الذي يجب أن تستقيم حياته عليه، حتى بعد انقضاء أجل المُصطفى، فما اصطفى الله من البشر رسلا إلا ليتأسى الناس بهم، وتستقيم حياتهم على سنتهم، حتى بعد مماتهم وانقضاء آجالهم.
كذلك شهر رمضان المبارك، جعل الله اصطفاءه توجيها إلى تحقيق الإيمان وبلوغ التقوى، كي تستقيم حياة المسلم على الإيمان والتقوى حتى بعد انقضاء الشهر الفضيل.
فشهر رمضان ليس استثناء في حياة المسلم، وإنما هو الأصل الإيماني الذي يجب أن تستقيم حياته عليه، ولا غرو فإن الغاية من الصيام هي تحقيق التقوى، والتقوى أصل عند المؤمنين وليست استثناء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رمضان أنه سوق قام ثم انفض ربح فيه من ربح وخسر فيه من خسر، ولا يربح التاجر في شهر لأجل أن يخسر في باقي الشهور، وإنما ليذوق حلاوة الربح، فيحرص عليه ولا يفرّط فيه أبدا.
إن ارتباط المسلم بشهر رمضان هو ارتباطٌ بالله تعالى في الأساس، وما اصطفى الله شهر رمضان إلا لينبه الناس إلى ضرورة الاتصال به جلّ وعلا، ويعينهم على ذلك بالتيسير ومضاعفة الأجر، فإذا أدى المسلم الطاعات في رمضان- وفي غيره- ثم لم تصل به طاعته إلى الله، ما حقق مراد الله من الطاعات ومن الاصطفاء.
لا ينبغي أن يخرج ارتباط المسلم بشهر رمضان عن هذا السياق الإيماني الأصيل، وإلا فقدَ الانتفاع به، وصارت عباداته موسمية، وشعائره كرنفالية، ولا يوجد في ديننا موسم للعبادة بحيث إذا انتهى تنتهي، ولا شعائر كرنفالية نحتفل فيها بالأطعمة والأشربة والزينة، بينما القلوب في غيبة عن الله تعالى.
لما كانت القلوب في شهر رمضان مهيأة إلى الارتباط بالله، والنفوس مستعدة فيه إلى التزكية، كانت فرص تحقيق الإيمان فيه أكبر. من أجل ذلك عُرف رمضان بشهر الانتصارات، كونه شهر تحقيق الإيمان الذي هو شرط التأييد الإلهي: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}.
المحور الثاني، القرآن:
رمضان مُعرّف بالقرآن: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}، وهذا يعني أن سبب اصطفاء الله تعالى لشهر رمضان هو نزول القرآن فيه، وربما لو أنزله الله في شهر غيره لاصطفاه.
استحق شهر نزول القرآن الاصطفاء العظيم، وليلة نزول القرآن أن تكون أعظم الليالي على الإطلاق، ونبي القرآن الله صلى الله عليه وسلم خير البرية، وأمة القرآن خير أمة أُخرجت للناس، كل هذا وغيره لجلال القرآن وأهميته وضرورته.
وجّه الله تعالى الناس إلى القرآن بشهر كامل من البركات والنفحات، لعلهم يلتفتون إليه، ويعتنون به، ويصرفون أولويات مهامهم إلى فهمه والعمل وفق تعاليمه والقيام بأوامره والوقوف عند نواهيه، وليكون شهر رمضان بذلك احتفاء تعبديا بنزول القرآن.
إذا أتى رمضان ثم انصرف بغير أن ينظر المسلم في القرآن نظرة تأمل وتدبر، فما انتفع بالشهر الفضيل، وما عمل وفق حكمة الله تعالى من اصطفائه.
القرآن هو السبيل الوحيد الموصول بالله تعالى، إذ هو كلام الله الذي يعرّف به نفسه سبحانه بنفسه وبكلامه لعباده، وأي معرفة أوثق وأسهل وأبين من هذه، فمن سلك إلى الله غير طريق القرآن ضل، والذي يبحث عن الله تعالى في غير القرآن موهوم. فإذا كانت غاية سنة الاصطفاء هي حسن الارتباط بالله تعالى، فإنه لا سبيل إلى الارتباط بالله إلا بالقرآن.
هكذا وعلى هذا النحو نفهم شهر رمضان المبارك، ونعي مراد الله تعالى منه؛ لنحسن التعامل معه، ونبلغ غايتنا فيه.