شريف ربيع يكتب: عاطفة الحنين للوطن

العاطفة نعمة جليلة منَّ الله –سبحانه وتعالى- بها على الإنسان؛ وهي نبع فيَّاض يتدفَّق في أعماق النفس البشرية بالحب والود والشوق والحنين، ولولا هذا الحب لما استحق الإنسان لقب “إنسان”.

ومن ذلك أن الإنسان يحب المكان الذي نشأ وتربَّي فيه، وقضى فيه طفولته وشبابه وشيخوخته، والذي لعب ومرح وقضى أحلى الأوقات فيه، ويحنُّ كذلك إلى أهله وأصدقائه وأحبابه في هذا الموطن.

وعاطفة الحنين إلى الأوطان موجودة في جميع الكائنات، ولكنها في الإنسان أقوى وأشد؛ فنرى أن العصافير بعد انتهاء رحلة ذهابها للبحث عن الرزق تعود إلى أعشاشها، والظباء أيضًا تعود إلى أماكنها في الشجر لتستتر به،… وهكذا جميع المخلوقات.

والوطن حتى لو صار قبرًا يُدفن فيه الإنسان؛ سواء بسبب ظلم أو تضييق أو أي شيء آخر، سيظل المرء يحنُّ إليه ويتمنى العودة له مهما حدث.

فالموت في أحضان الوطن حياة، والحياة في البعد عنه موت. وقد امتلأت دواوين العرب بالشعر الذي قيل في حب الوطن؛ ومثال ذلك ما قاله الشاعر السوري فوزي معلوف:
مهما يجور وطني عليَّ وأهلُه فالأهل أهلي والبلادُ بلادي
فمهما يجور الوطن فهو وطني، وأهله أهلي أيضًا.

وكذلك قالت ميسون بنت بحدل زوجة معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- أبياتٍ من الشعر تدل على أنها لا تريد غير وطنها بدلًا؛ فما أجمله من وطن شريف نبيل.
فما أبغي سوى وطني بديلًا فحسبي ذاك من وطني شريف

والذين يتنعمُّون بالعيش في الوطن، لا يشعرون بما يقاسيه المحرومون من مرارة فِراق أوطانهم. وما أصدق الشاعر والكاتب السوري خير الدين الزركلي –رحمه الله- حينما قال:
لـيـت الــذيـن أُحـبهـم عـلـمـوا وهم هنالك ما لقيت هنا
ما كنت أحسبُني مفارقَهم حـتى تـفـارق رُوْحـي البدنا

وها هو الرسول الكريم –صلى الله عليه وسلم- حينما أذن له الله -تعالى- بالهجرة من مكة إلى المدينة، خرج من مكة وقبل أن تختفي عن نظره، التفت إليها وأخذ تنهيدة المتوجِّع، وقال: “واللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلى اللَّهِ، وَلَوْلاَ أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ؛ ما خَرَجْتُ” (أخرجه الترمذي في “سننه”، وصححه الألباني في “صحيح سنن الترمذي”).

لقد أُخرج النبي –صلى الله عليه وسلم- من بلده مكة مكرهًا مضطرًا، بعدما ناله أذى كثير من أهلها بسبب إسلامه؛ لكنه رُغم ذلك ظل مشتاقًا إلى ذلك المكان الذي فيه ضحكه وفرحه، ونشأته وصباه وشبابه، وأهله وعشيرته وأحبابه، وفيه تزوج خديجة رضي الله عنها، وفي هذا الموطن أيضًا الأماكن التي كان يخلو فيها بربه، وينقطع للعبادة من أجله. ففي هذا المكان روحه كلها وحياته!

وكان بلال بن رباح –رضي الله عنه- يشتاق إلى مكة، وهو المكان الذي ذاق فيه أهوال العذاب على رمال صحرائها خلال أشد أوقات الحر، ورُغم ذلك كان يحنُّ إليه ويرفع صوته وهو يردد بيتين من الشعر يدلان على شدة تعلُّقه بمكة، يتساءل فيهما هل سيدرك العودة إلى وطنه ذات يوم؟ وهل سيبيت فيه ليلة وحوله حشائش مكة ذات الرائحة الطيبة، في موضع قريب من جبلي شامة وطَفِيل؟
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بـــواد وحـــولي إذخــــر وجـــلــــيـــــل
وهــل أردن يـــومًـــا مــــيـــــاهَ مَــجـَــنـــَّـةٍ وهل تبدون لي شامة وطفيل

إنها تلك العاطفة الإنسانية السامية التي تتحرك في القلب فتجعل المرء يحنُّ إلى وطنه، ويشتعل فؤاده بنار الشوق إليه وإلى من فيه، وما فيه أيضًا. والروح الإنسانية لا يهدأ لها بال ولا تستقر إلا في مسقط رأسها، وموطن نشأتها، ولا تُشفى عِلَلها إلا بالتنعم برائحة هذا الوطن الذكية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى