د. يسرا محمد سلامة تكتب: كورونا ومهرجان الموسيقى العربية في الإسكندرية

مهرجان الموسيقى العربية الثلاثون هذا العام في الإسكندرية، كانت له أجواء مختلفة عن الأعوام السابقة؛ نظرًا لنقل حفلات المهرجان من قاعة الأوبرا السكندرية الشهيرة (مسرح سيد درويش) أمام سينما مترو، إلى قاعة المؤتمرات الكبرى بمكتبة الإسكندرية؛ لأنها أكثر اتساعًا كما فهمنا من مبررات مسئولي دار الأوبرا، الأمر الذي لم ينل استحسان أو قبول رواد المكان الذين اعتادوا على حضور حفلات المهرجان في الأجواء المعتادة سنويًا بالنسبة لهم، وهذا الاستياء كان منذ معرفتهم بقرار النقل.

بالطبع أتفهم تمامًا مدى حرص رواد الأوبرا على حضور هذه المناسبة الطربية في مكانهم المفضل، ففي القاهرة تُقام الفاعليات في دار الأوبرا، ويستمتع ضيوف المهرجان بهيبة وروعة المكان تزامنًا مع انطلاق هذا الحدث في موعده السنوي، فلماذا يتم حرمان جمهور الإسكندرية منه ولا يتم معاملتهم بالمثل؟

فأنت عندما تتردد على مكانٍ ما لعدة مرات، يتكون لديك أمرين أولهما أنك أصبحت ترتبط ارتباط وثيق بهذا المكان، أما الأمر الثاني فهو متعلق بالذكريات التي تنسجها في هذا المكان، ومع من تذهب إليه، إذن فالمكان عامل أساسي ومهم وضروري في مدى رغبتك أو نفورك، كما أنّ نفسية الشخص تؤثر بشكلٍ ما على تقبله للمكان من عدمه؛ خاصةً إذا كانت تلك المرة الأولى التي يذهب فيها إليه؛ لأنّ الانطباع الأول يدوم دومًا.

أمّا عن المكان لمن لا يعرف تاريخه فهو يُمثل تحفة معمارية ويُعد من أقدم المسارح فى مصر وتم وضع حجر الأساس له عام 1918م، أُطلق عليه اسم تياترو محمد علي وصممه المهندس الفرنسي “جورج بارك”، مستوحيًا عناصر أوبرا فيينا ومسرح أوديون في باريس وزُين المبنى بمجموعة من الزخارف الفريدة ذات الطابع الكلاسيكي الأوروبي، تمّ افتتاح المسرح عام 1921م وقُدمت عليه عروض عديدة مصرية وأجنبية، وفي عام 1962م، تم تغيير اسمه من “تياترو محمد علي” إلى مسرح سيد درويش تكريمًا لفنان الشعب السكندري.

إذًا فالمكان له هيبة تاريخية لا مثيل لها، كما أنّ الدولة سعت في الآونة الأخيرة لكي تُجهزه تجهيزًا يليق بالمستويات التي يشهدها العالم في أروقة الأوبرا المختلفة، وكل ذلك جعل السكندريين يتعلقون بهذا المكان أكثر فأكثر.
لكن، لننظر لأمر النقل من زاوية أخرى مختلفة – رُغم أن الكثيرين لن يتقبلوا أي مبررات من شأنها الانحياز لقرار النقل – لكني سأحاول في السطور القادمة النظر للموضوع من زاوية مُستقلة حيادية، هي مجرد وجهة نظر لا أكثر ولا أقل.

نعم، إمكانيات قاعات المؤتمرات في المكتبة من مستوى الصوت أو عنصريّ الإضاءة والإبهار أقل في جودتها من نظيرتها في دار الأوبرا؛ لأنّ السبب الذي من أجله أُنشئ المسرحين مختلف جد الاختلاف، ورُغم ذلك لا ينبغي أنْ ننسى أنّ قاعات المكتبة سبق وأنْ احتضنت فاعليات غنائية وفنية كثيرة لكبار المطربين، أو الممثلين، لذا فهي ليست السابقة الأولى، كما أنّ حجم قاعة المؤتمرات الكبرى والتي يُقام عليها فاعليات المهرجان كبير جدًا، وذلك أمر جيد بسبب كورونا فبإمكان الأشخاص التنقل من منطقة مزدحمة في القاعة إلى منطقة أخرى أقل ازدحامًا؛ للتقليل من حدوث إصابات أو عدوى بالفيروس اللعين، وهو أمر مهم للغاية وكان يجب الالتفات إليه بكل تأكيد؛ لأنّ القاعة مُكيفة وليست مكشوفة في الهواء الطلق مثلما الحال في قاعات أوبرا القاهرة، لذا، لمن استاء من قرار النقل عليه أنْ يتريث قليلاً ويحمد الله أنّ وزارة الثقافة استطاعت الاستمرار بفاعليات المهرجان مرةً أخرى، وكان لابد من وجود بعض الاستثناءات، حتى وإنْ كانت غير مُرضية لكنها لازمة في هذا التوقيت؛ لوجود وباء قاتل حفظنا الله وإياكم من كل شر.

علق البعض تحديدًا على حفلة المطرب الكبير مدحت صالح، أنه كان هناك سوء تنظيم كما أنّ أسعار التذاكر مُغالى فيها، إضافة إلى الفرقتين اللتين سبقته لم يكن لهما أي ضرورة في الحفل، فهما في نظر البعض حشو زائد لإطالة الوقت، ومن حُسن الحظ أني كنت في هذه الحفلة يوم 7 نوفمبر الفائت.

أتفق تمامًا مع الغالبية التي ركزت على ارتفاع أسعار تذاكر هذا العام لحفل الفنان مدحت صالح وبشكل عام لباقي الحفلات، وأظن أنّ تفسير ذلك متعلق أيضًا بمحاولة عدم ملء جميع الأماكن؛ لإعطاء الفرصة للتباعد على قدر المستطاع، وهذا ما حدث فكان هناك العديد من الأماكن الفارغة وهذا سهّل على البعض التنقل بالفعل، الفرقتين اللتين جاءتا قبل الفنان الكبير، كانتا مميزتين خاصةً الفرقة العراقية والتي تجاوب الكثير معها في القاعة، عكس ما تردد أنّ الحضور قاموا بالخروج من القاعة؛ لأني كنت قريبة من باب الخروج ولم يحدث هذا على الإطلاق، على العكس تمامًا وقد رأيت وسمعت استحسان الناس بما قدموه، وإنْ كان هناك تحفظ صغير؛ لأنّ مستوى الفرقة العراقية كان أفضل بكثير من الفرقة التي غنت قبلها.

وأخيرًا، عاب على التنظيم طول الاستراحة التي سبقت دخول صالح وفرقته بقيادة المايسترو العبقري عمرو سليم، فالاستراحة استغرقت ساعة إلا ربع، وهذه فترة طويلة، أدت لدخول صالح في الحادية عشر إلا خمس دقائق، وانتهى في الثانية عشر ونصف تقريبًا، وللأمانة لم أسمع أي تعليق من الفنان عمرو سليم على ضعف إمكانيات الصوت، الأمر الذي حدث مع مدحت وهو يُغني لكنه تدارك الموقف سريعًا ولم يُبدي أي غضاضة، أو تأفف، بل كان بشوشًا طيلة الوقت، وأمتعنا بأغنياته الجميلة سواء القديمة لكبار المطربين أو أغانيه المميزة المعروفة، وظل الحضور يقومون بالغناء معه طيلة فقرته.

تلك كانت المرة الأولى لي في مهرجان الموسيقى العربية، ورُغم أنني لم يُسعدني الحظ في أنْ تكون في البيت الأصيل للمهرجان وهو دار الأوبرا، لكنني استمتعت جدًا بالأجواء؛ لأنني عكس الغالبية المستاءة قد هيأت نفسي على تواجدي في الحفل من أجل من سيُغني ألا وهو مدحت صالح، لذا لم أقف كثيرًا عند نقطة تغيير المكان؛ لقناعتي أنّ هناك أسبابًا شائكة كانت سببًا في النقل ولولاها لما حدث بالتأكيد، فكان عليّ أنْ أتقبل الفكرة حتى أتمكن من الاستمتاع، وهو ما حدث لأغلب الحضور الذين جاؤوا للاستمتاع بالفن الذي يُقدم، وهم يعلمون جيدًا أنّ فكرة اختيار مكتبة الإسكندرية موفقة إلى حدٍ كبير؛ لأنها رمز من رموز الثقافة على أرض مصر، لذا فهي أفضل حل مؤقت استطاعت إدارة المهرجان تحقيقه؛ نظرًا للظروف الراهنة.
أرجو من السادة المستائين مُحبي الفن الراقي في مكانهم العريق مسرح دار الأوبرا السكندرية أنْ يتقبلوا وجهة النظر تلك، حتى يتسنى لهم الاستمتاع بباقي أيام المهرجان بطريقةٍ أو بأخرى طالما ليس هناك حل آخر في هذا التوقيت يمكن التقيد به، وندعو المولى عزّ وجل أنْ يُزيح تلك الغُمة حتى ننعم بالحضور في العام القادم في قلعة الفن الراقي أوبرا الإسكندرية، وأتمنى أنْ أتواجد هناك في العام القادم في مهرجان الموسيقى العربية الواحد والثلاثون دون قيد أو شرط.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى