صموئيل نبيل اديب يكتب: سينما الاستكانه.. كيف رسخت الدراما قبول الظلم ؟ !!
مستشار اعلامي - مصر
أشد ما تحتفظ به ذاكرتي من كلمات الكاتب الراحل ( يعقوب الشاروني) هو جملة كتبها في مقاله في جريدة وطني الذي صادف انه فوق مقالي ،حيث قال :
.( ان من اكبر اخطاء الدراما المصرية أنها تركز على أفعال الشرير و أخطائه طوال 29 حلقة و في آخر حلقة فقط يتم القبض علي المُجرم ، وهذا اكبر خطأ ، لقد ظلت الأفعال الشريرة معروضة للمُشاهد الكبير و الصغير لمدة شهر كامل بينما تواري العدل خجلا حيث جاء متأخرا بعد أن مات من مات و بكى من الظُلم البرئ و العاجز و الفقير .. هذا يجعل الناس تتقبل الظلم و تفسح له مجالا بدلا من أن تقاومة و نقف ضده منذ لحظة ظهوره لأول مرة)
شدتني جملته فتأملتها ، انها حقيقية بشكل مرعب، تلاحظها حتى في أمثالنا الشعبية التي تدعو إلى عدم مقاومة الأشياء مثل ( اصبر على جار السوء يا يرحل يا تيجي مصيبة تاخده) .. فإذا كان هو سيء فلماذا يجب علي ان احتمله و ارفع راية الذل و السكينه .؟ لماذا لا ادفع اذاه و احاربه واشيل ( قرفة) من الدنيا…؟
ربما هذه تكون الإجابة على السؤال الأصعب { لماذا صار الجيل الحالي خانع ضعيف الإرادة في مواجهة الظلم و الخطأ و غير غيور على دينه و وطنه.. و أصبح الجيل غير مهتم بالدفاع حتى عِرضه و شرفة..؟}
.. هذه المعلومة المهمة جدا في علم النفس الاجتماعي اهتمت بها السينما الهندية الجديدة بشكل كبيرا جدا في أفلامها الحديثة فبعيدا عن سطيحة العرض والاكشن التي تتواجد في هذه الأفلام، و لكن في قواعد السينما كما تعلمون يتم تقسيم زمن الأفلام الي مقدمة وهي تقريبا 10 دقائق اسمها- وقت تقديم الأبطال- حيث يتعرف المُشاهد على البطل وعائلته ثم ثلث ساعه يحدث فيها الحدث الأساسي أو المشكلة الرئيسية للفيلم ،ثم تتفاقم المشكلة و اخيرا الحل فالنهاية
قديما كنت تجد ان البطل يتعرض للظلم و الاهانه والذل لمدة أكثر من ثلثين وقت الفيلم و اخيرا وفي آخر عشرة دقائق كان البطل يثور و ينتقم ،
الان بعد أن انتبه العالم لخطورة تواجد الظلم لمدة ثلثين الفيلم فإن السينما الهندية جعلت البطل يبدأ انتقامه و رفضه الظلم من منتصف وقت الفيلم تقريبا،. اينعم تركت مساحة الشرير لكي يفعل الشر و لكن جعلت البطل يقرر ان يحاربه مبكرا ،لكي يكون قرار رفض الظلم هو الأطول على الشاشة من فترة أفعال الظلم نفسها، الأمر الذى يرسخ في نفوس المشاهدين فكرة {أرفض الظلم من البداية ولا تنتظر ساكنا العقاب الالهي بدون ان تفعل شيئا}
هذا التغير البسيط وغير المحسوس و غير الرسمي في سياسة السينما الهندية أفرزت أجيال لديها وعي جمعي برفض الخطأ و محاربة المخطئ بدون الاستكانة والخنوع تحت شعار ( ربك يدبرها من عنده)، إذ أنه و مع اتفاقنا ان الارض وما عليها هى تحت امر الله، و لكن هو نفسه أمرنا بأن لا نكون سلبيين والا فما الفارق بين السلطان صلاح الدين مثلا و اي سلطان ترك أرضه و هرب..
إن المسألة أعمق بكثير من مجرد انتاج مسلسل للتسلية و تضيع الوقت ، إنها بناء عقل جمعي يختار إما الخنوع السلبي وانتظار المصير، أو الغيرة الإيجابية والوقوف في وجه الخطأ من اللحظة الأولى… عندما نرى صلاح الدين يواجه الصليبيين بثبات لا يتزعزع، ثم نرى درامانا تشجعنا على “الصبر على جار السوء” حتى يُزال بقوة غيبية ؛ فإننا نرتكب خيانة مزدوجة.. خيانة للتاريخ وخيانة للوعي.. . لقد صار لزاماً على كل صانع محتوى أن يدرك أن ترك مساحة أكبر للشر على الشاشة هو إفساد للروح و للوطن
في ذكرى وفاة – الكاتب الكبير يعقوب الشاروني.
رائد أدب الأطفال فى العالم العربى…
24 نوفمبر 2023



