السيد الجمل يكتب: نحرنا زمن الطيبة الحقيقى.. لنحيا في أكذوبة العصر البلاستيكي!

نتنهد بحسرة مصطنعة كلما رأينا صورة قديمة بالأبيض والأسود، ونردد العبارة المستهلكة “الله يرحم زمن الطيبين”. تلك العبارة التي أصبحت “مخدرًا” نمارسه للهروب من واقعنا، والحقيقة المرة التي نرفض الاعتراف بها هي أن ذلك الزمن لم يرحل طواعية، بل نحن من نحرناه على مذبح “التريند” والمظاهر الجوفاء. حقا لا نحِنُّ إلى الماضي، نحن فقط نكره بشاعة وجوهنا في مرآة الحاضر نقف أمام عبارة تختصر شعوراً جماعياً بأننا نعيش في زمن تلاشت فيه البراءة، وطغت فيه المصالح المادية على العلاقات الإنسانية ولكن، هل حقاً انتهى زمن الطيبين؟ أم أننا نحن من تغيرنا، فتغيرت نظرتنا للعالم من حولنا؟
في زمن الطيبين، كان الهاتف قطعة أثاث ثقيلة مثبتة بمسامير في الحائط، ومع ذلك كانت القلوب متحركة وتصل الأرحام بلا موعد. كان الاتصال صعبًا، لكن التواصل كان عميقًا وحقيقيًا. الجار يعرف ما يطبخه جاره، والباب مفتوح “على البحري” لأن الأمان كان في النفوس لا في الكاميرات المراقبة.
أما اليوم، في عصرنا “الذكي”، نحمل العالم كله في جيوبنا ، لدينا آلاف الأصدقاء على “فيسبوك”، ونتابع مئات اليوميات على “سناب شات”، لكننا نموت وحدة واكتئابًا في غرفنا المغلقة. نملك أسرع إنترنت ، لكننا فقدنا القدرة على النظر في عيون بعضنا البعض لمدة دقيقة واحدة دون أن نختلس النظر إلى شاشة الهاتف. المفارقة المضحكة المبكية هي أننا أصبحنا “متصلين” إلكترونيًا ، و”مقطوعين” دينياً وإنسانيًا.
في زمن الطيبين، كان الثوب يُرقع ليوارى الجسد، وكان الخجل يمنع الناس من استعراض ما يملكون، وحتى ما يأكلون، احترامًا لمشاعر الفقير. كان “العيب” قانونًا صارمًا أقوى من الدستور، وكانت “السُترة” هي رأس المال.
أنظر حولك الآن.. نحن نعيش في زمن “التعري” بكل معانيه. ليس تعري الجسد فحسب، بل تعري الخصوصية. أصبحنا نصور موائد طعامنا لنغيظ الجائعين، ونصور هدايانا لنغيظ المحرومين، بل ونصور جنازات موتانا لنحصد “اللايكات”. تبدل الحال من ثياب مرقعة تستر أجسادًا عفيفة، إلى ثياب ممزقة على الموضة تكسو أجسادًا بلا هوية. في الماضي كانوا يخافون الفضيحة، واليوم نسعى إليها لأنها الطريق الأقصر للشهرة والتريند!
كان الرغيف يُقسم على أربعة ويشبعهم، وكان البيت الضيق يتسع لعشرة أنفس والضحكات تملأ أركانه. كانت الأشياء قليلة لكن قيمتها عظيمة.
أما في زمننا، “زمن الوفرة”، فالثلاجات ممتلئة والطعام يرمى في القمامة، والبيوت واسعة كالقصور لكنها باردة كالمقابر، يسكنها أفراد لا يلتقون إلا صدفة في الممرات عند انقطاع النت . كثرت الأموال وقلت راحة البال، وتعددت المستشفيات واختفت الصحة. المفارقة هنا صارخة نحن نملك كل أسباب الراحة التي حلم بها أجدادنا، لكننا نعيش تعاسة لم يعرفوها قط .
وختاما كفوا عن النفاق!
لا تلوموا الزمان، فالزمن وعاء محايد. نحن من تغيرنا. نحن من استبدلنا “القناعة” بـ “الجشع”، واستبدلنا “اللمة” بـ “الجروب”، واستبدلنا “الهيبة” بـ “التفاهة”. واستبدلنا ” الأصول” بالوصول” وإستبدلنا ” الأخلاق ” بالنفاق ”
زمن الطيبين لم يكن زمن ملائكة، لكنه كان زمن “أصول”. ومشكلتنا اليوم ليست في التطور ولا في التكنولوجيا، بل في أننا مسخنا فطرتنا. فإذا كنتم حقًا تشتاقون لزمن الطيبين، توقفوا عن التباكي، وأعيدوا إحياء أخلاقهم فيكم.. وإلا فاصمتوا، ودعوا الموتى يرقدون بسلام بعيدًا عن ضجيج النفاق الإلكتروني ، شاركنا جميعا فى جريمة قتل كبيرة مع سبق الإصراروالترصد لقد قتلنا بساطة الماضي لنحيا في “مسرحية هزلية “فى الحاضر وجلبنا الشقاء لأنفسنا حينما تخلينا عن عادات وتقاليد المجتمع.
وهناك عدة أسئلة أريد طرحها وأجعل الإجابة لك عزيزى القارئ .
- هل حقا نحرنا زمن الطيبين لنعيش زمن “النفوس البلاستيكية”لامعة من الخارج، جوفاء من الداخل؟
- أم حقا هل اغتالنا “القلوب الطيبة ” وإستبدلناها بقلوب من السيليكون؟
- هل دفنا “الأصول الراقية ” تحت التراب وشيدنا فوقها عصر التريندات الواهية ؟



