مني النمر تكتب: “من قلب القاهرة” …

يظن البعض أن بالإمكان تغيير الجغرافيا ، أو تحييد أو تقليص الدور المصري بمؤتمر ، و مخطئ من يظن أنه يمكن تغيير التاريخ ، أو الأماكن بشيك …
فمصر ليست مجرد دولة في دفتر العناوين ، لأنه ببساطة هي التي كتبت دفتر العناوين نفسه …

فحين تطرح اليوم فكرة نقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى أي عاصمة أخرى ، ذلك ليس مجرد قرار إداري ، ولا حتى مسألة “موقع جغرافي” ، بل هو محاولة ناعمة ، ولكن مؤلمة لعزل مصر عن دورها المركزي ، وتجريدها من إرثها الممتد في قيادة المشهد العربي …

فالسؤال ليس: أين سيكون المقر …؟
بل: لماذا الآن …؟ ولمصلحة من …؟!!
وما الذي يحدث تحت الطاولة …؟!!
حين يطرح فهذا الملف رغم أنه يبدو إداريا ، لكنه في الحقيقة هو ملف سياسي حتى النخاع …

فمصر ليست مجرد مستضيف لجامعة الدول العربية …
بل كانت وما زالت ، ولو أزعج ذلك البعض مركز القرار العربي …

فهي التي احتضنت الجامعة حين كانت العواصم الأخرى تتلمس طريقها ، وهي التي دفعت من دمها وأبنائها وجيشها ما لم تدفعه دولة عربية أخرى من أجل “عروبة” باتت اليوم على مائدة المفاوضات والمصالح …

هل يمكننا إذاً اختزال تاريخاً من المبادئ والمواقف ونقله في طرد دبلوماسي إلى وجهة جديدة …؟!!
هل المقر هو المشكلة …
أم أن المطلوب هو تحجيم مصر ذاتها …؟!!

منذ سنوات ، و المحاولات مستمرة ، ولكن بصمت ذكي ، لإقصاء مصر عن مركز الأحداث …

فنجد إنها لم تعد تستشار كما كانت ، و لم تعد تدعى إلا متأخراً . و أحياناً أخرى توجه لها رسائل التهميش عن طريق الدعم المالي للكيانات البديلة ، أو تجاهل رأيها في القضايا المحورية …
هذه ليست مبالغة ، بل سياسة و أمر واقع …
إن نقل مقر الجامعة من القاهرة ليس مجرد تغيير في العنوان ، بل هو خطوة في سياق متكامل يرمي إلى إعادة هندسة الدور الإقليمي ، حيث تخرج مصر من الدائرة المركزية لتقف في الهامش ، أو تستبدل بدول تملك المال ولكنها و للأسف لا تملك العمق أو التاريخ أو الإرادة المستقلة …

فإذا تغير المقر ، وتغير الأمين العام ، وتغيرت أجندات الاجتماعات ،
السؤال البديهي هو:
هل ستبقى جامعة “العرب” كما هي …؟!! أم ستصبح صوتاً واحداً ، يخدم مصالح من يمولها ، ويوجه نبرتها و قرارتها ، ويصنع بياناتها على هواه …؟

و ماذا إذاً عن القضايا المصيرية …؟ فلسطين ؟ سوريا ؟ ليبيا ؟ السودان ؟
هل ستناقش فعلاً ؟ أم سنرى بيانات شاحبة ، معلبة ، تخلو من أى موقف حقيقي أو شجاع …؟!!

ورغم كل هذا ، هناك من يرى المشهد من زاوية مختلفة قليلاً .
زاوية أكثر هدوءاً ، أكثر واقعية ، وربما أكثر شجاعة …
نعم ، يبدو جلياً أن هناك توجيهات خارجية واضحة للسعودية أو غيرها في ملفات المنطقة ، خصوصاً القضية الفلسطينية …
وبالتالي فإن نقل المقر قد يكون تمهيداً لتطبيق سياسة جديدة في التعامل مع الصراع ، أو حتى إعادة تعريف العروبة من منظور جديد تماماً …

و السؤال الأهم هو:
هل مصر تحتاج هذا المقر لتكون مؤثرة ؟

ألم يتجاوز دورها تاريخياً كل مؤسسة وكل هيئة …؟!!

لنتحدث بصدق:
هل تفقد مصر شيئاً إن نقلت الجامعة …؟ ربما ليس كثيراً ، لأن ثقلها الحقيقي ليس في المباني ، بل في التأثير …
لكن ذلك لا يعني أن نمرر الأمر دون وعي .
و لما يحاك و يجهز من انتزاع من مصر هذا الدور ، ثم يتم تقليص نفوذها في مؤسسات القرار ، و تشويه صورتها إعلامياً ، فنحن أمام خطة متكاملة لإعادة صياغة الخريطة العربية بدون مصر في مركزها …
في قاعات لا تسمع صوتًا إلا لمن يملك المال …؟

قد يرى البعض ، وأنا منهم ، أن من يريد نقل المقر فليفعل …
فلتأخذ أي دولة المقر ، وتزخرفه ، وتملأه شاشات …
أما نحن …؟!!
سنجلس ونراقب … وسنرى إلى أين تمضي الأمور …
ومتى سيعود الصوت الحقيقي ، والقرار الجاد ، والموقف الأصيل …
لأن مصر ، ببساطة ، لا تمحى من الذاكرة ، حتى لو غابت عن الجدول …
لكن ما نخشاه …
أن يكون الثمن باهظاً ، أو أن يكون الندم بعد فوات الأوان …

أنا لست مع نقل المقر …
لكنني لست مرعوبة أيضا من أن ينقل …
لكنني ضد تغييب مصر …
وضد تفريغ القرار العربي من معناه …

وضد أن تصبح القضية الفلسطينية مجرد “ملف” يدار بإملاءات خارجية …

لكني أيضاً أراهن على أن ما يبنى على باطل … لا يدوم .
وأن مصر ، التي احتضنت فكرة العروبة قبل أن تكتب في دساتير ، ستعود كما كانت … ربما بعد زمن …
لكن بلا تنازل ….

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى