السيد الجمل يكتب: شبح التكنولوجيا فى وَادِي السيليكون

يـُحكى أن مَطحون بِن طاحون وَجَد دِهليز عَجِيبْ ، يُصدر إشعاعاتِ بِشَكل غَريب ، يُقال أنَه دِهليزٌ مَسحُور ، وَالأرضُ بِداَخِله بُور ، فَقَرَرَ مَطحـون أنْ يَخوضُ التَجرِبه ، فَحَياٰتٌهُ دَائِماً مِكَركِبَه ، وقال فى َنفِسْه لا أَخـسَرٌ شَيئاً إِذاَ جَربت ، إِن مُت إِستَرحت ، وإِن عِشتُ فَقَد نَجَحتُ ، وأخذ يَقتربٌ مِنَ الدهِليز بِهدوء تٰام ، ،فَإِذا بِمدينةِ عَجِيبة يَملاؤٌها الظّلام ، وٰوجَد مَكتوبُ على بابها “وَادِي السيليكون “، حَيْثُ الْبَشَرُ يَرْكُضُونَ وَرَاءَ ظِلالِهِمْ بِأَجْهِزَةٍ تَتَلَأْلَأُ، وَالْحَارِسُ عَلَى أَبْوَابِهَا خَوَادِمُ آلِيَّةٌ تَنْطِقُ بِلُغَةِ الْجيجا وَالْبَايتْ والتيرا ومواقع السَايِت

.
والوادى مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ الزَّمَنِ الْحَدِيثِ، تَتَأَلَّقُ أَرْصِفَتُهَا بِالْبَرَاقِيلِ كأنها كَتَائِب ، وَتَتَدَلَّى مِنْ سُقُفِهَا أَسْلاَكٌ كَأَنَّهَا أَشْبَاحُ الْعَناكِب، وَالنَّاسُ فِيهَا يَمْشُونَ وَأَبْصَارُهُمْ فِي صَحَائِفَ لَامِعَةٍ يَحْمِلُونَهَا بِأَكُفٍّ لَاهِيَةٍ، لَا يَرُونَ مَنْ حَوْلَهُمْ إِلَّا عَبْرَ شَبَابِيكَ صَغِيرَةٍ تَتَقَلَّبُ بِالْأَلْوَانِ !.

فَإِذَا بِرَجُلٍ أَسْمَرَ، عَلَيْهِ جُبَّةٌ مُرَقَّعَةٌ بِأَرقَامٌ”الكُودْ” الْبَائِسَةِ، يَخْطُو نَحْوِي وَيَقُولُ بِصَوْتٍ مِزْمَارِ الْإِنْذَارِ “يَا ابْنَ آَدمٌ، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ صَارَ الْإِنْسَانُ عَبْدًا لِلسِّيلِكُونِ والشَاشَاتِ ، وَالْعَاطِفَةُ رَقْمِيَّةً تَحْتَاجُ إِلَى تَحدِيثٍ وَرِيفِريِشَاتِ وَمُجِمَلُ الأَحَادِيِثُ عَلى الشّاتِ.
فَقُلْتُ: “وَهَلْ أَنْتَ إِلَّا أَبُو زَيْدٍ السُّرُوجِيُّ، صَاحِبُ الْمَقالِبِ وَالنَّكَتَ الْعَتِيقَةِ؟”فَضَحِكَ كَالنَّغْمَةِ الْعَالِيَةِ وَقَالَ”أَنَا هُوَ، أَبُو زَيْدٍ، مَلِكُ الْفَضَاءِ الرَّقْمِيِّ، وَسَاحِرُ الْبَرَامِجِ الْوهَمىِ! أَرْوِي لَكَ عَجَائِبَ زَمَنٍ صَارَ فِيهِ الْفَقِير يَأْخُذُ صَدَقَتَهُ مِنْ بَطَاقَةِ ائْتِمَانٍ، وَالْكَلْبُ يَنْبَحُ بِلُغَةِ التَّرْجَمَةِ الْفَوْرِيَّةِ وَكل شئ أصَبَح بِلا أَمانٍ!”.

ثُمَّ رَاحَ يُحِيكُ لِي حِكَايَاتِهِ مَعَ التِّكْنُولُوجْيَا “مَرَّةً دَخَلْتُ مَتْجَرًا إِلِكْتْرُونِيًّا، فَقَالَ لِي الْبَائِعُ: تَفَضَّلْ تَسوِّقْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمْسَّ الشَّيْءَ! فَقُلْتُ يَا هَذَا، أَنَا لَسْتُ شَبَحًا حَتَّى أَخْتَارَ الْهَوَاءَ! فَضَحِكَ وَقَالَ: هَذَا زَمَنُ الْوَاقِعِ الْوُهْمِيِّ، فَخُذْ هَذِهِ النَّظَّارَةَ وَاشْتَرِ مَا لَا يُوجَدُ! فَخَرَجْتُ أَجُرُّ عَرَبَةً خَارِجَ الْوَاقِعِ، وَفِيهَا أَشْيَاءُ لَا تُؤْكَلُ وَلَا تُلْبَسُ يُقَالُ عَنْها وَاقِعٍ إِفتِراضِىٍ!”.
فَقَطَعْتُ ضَحِكَهُ وَقُلْتُ: “وَهَلْ مِنْ أَعْجَبَ مِنْ هَذَا؟”.

فَقَالَ “وَالَّذِي خَلَقَ الْواي فاي وَالبلوتوثْ ! لَقَدْ زَارَتْنِي ابْنَةُ أَخِي تَشْكُو أَنَّ زَوْجَهَا يَتَحَدَّثُ مَعَ رَجُلٍ اسْمُهُ “شات جي بي تي” أَكْثَرَ مِنْهَا! فَقُلْتُ: لَعَلَّهُ صَاحِبُهُ الْجَدِيدُ! فَقَالَتْ: لَا، إِنَّهُ بَرْنَامَجٌ يَعِدُهُ بِالْمال إِذَا أَطَاعَ أَمْرَهُ! فَقُلْتُ: وَيْلَكِ، هَذِهِ مُنَافَسَةٌ بَيْنَ الْبَشَرِ وَالْخَوَادِمِ الْافْتِرَاضِيَّةِ ، ياٰلَهآ مِن سُخِرِيّة!”.

ثُمَّ أَخَذَ يَصِفُ لِي حَالَ النَّاسِ مَعَ الذَّكَاءِ الِاصْطِنَاعِيِّ
“رَأَيْتُ رَجُلًا يَصْرُخُ فِي هَاتِفِهِ: يَا جوجل، أَيْنَ وَضَعْتُ مِفْتَاحَ سَيَّارَتِي؟! فَأَجَابَ الْجَهَازُ: لَقَدْ نَسِيتَ أَنَّكَ لَا تَمْلِكُ سَيَّارَةً! فَصَاحَ الرَّجُلُ: يَا لَلْعَجَبِ، حَتَّى الْكَذِبَ صَارَ يَنْكَشِفُ بِالتِّكْنُولُوجْيَا!”

فَضَحِكْتُ حَتَّى اسْتَلْقَيْتُ، ثُمَّ قَالَ: “وَلَقَدْ دَخَلْتُ يَوْمًا مَقْهًى، فَوَجَدْتُ الْقَوْمَ قَدْ تَعَلَّقُوا بِأَجْهِزَتِهِمْ، يَتَحَدَّثُونَ مَعَ مَنْ لَا يَرَوْنَ، وَيُحَيُّونَ مَنْ لَا يَعْرِفُونَ، فَنَادَيْتُ: يَا قَوْمِ، أَيْنَ الْوُجُوهُ الَّتِي تُبَادِلُكُمُ الْكَلَامَ؟! قَالُوا: هِيَ فِي الْجِهَازِ! فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ صِرْتُمْ أَشْبَاحًا تَتَكَلَّمُ مَعَ أَشْبَاحٍ!”ثُمَّ أَخَذَ يُحَذِّرُنِي مِنْ سُلْطَانِ التِّكْنُولُوجْيَا، فَقَالَ:

“إِيَّاكَ وَالْوَقْتَ الَّذِي تَصِيرُ فِيهِ الْقُلُوبُ بَطَارِيَّاتٍ، وَالْعُقُولُ خَوَادِمَ افْتِرَاضِيَّةً تَملَؤُها الآهاتٍ، وَالْأَحْلَامُ مُجَرَّدَ نُسَخٍ مُسْتَنْسَخَةٍ كَالمُسَلسَلاتٍ!”.

وَفِي أَخِرِ الْحَدِيثِ، أَخْرَجَ أَبُو زَيْدٍ قِطْعَةً مَعْدِنِيَّةً صَغِيرَةً وَقَالَ”هَذِهِ “يُو إس بي” فِيهَا أَسْرَارِي كُلُّهَا، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَنِي، فَادْخُلْهَا فِي جِهَازٍ وَاِقْرَأْنِي! وَلَكِنْ إِيَّاكَ أَنْ تَفْتَحَهَا، فَوَرَاءَهَا فَيروسَاتٌ أَشَدُّ فَتكاً مِنْ غَضَبِ الْحَاسُودِ!”. ثُمَّ وَدَّعَنِي وَانْصَرَفَ، وَتَرَكَنى أَتَرَنَّمُ “يَا زَمَنَ التِّكْنُولُوجْيَا، لَقَدْ جَعَلْتَ الْحَكِيمَ أَحْمَقَ، والكَاذِبَ أَصدَق ، وَالْجَدٌ مِزَاحًا، وَالْوَاقِعَ خَيَالًا، فَمَتَى تَعُودُ الْقُلُوبُ إِلَى الْقُلُوبِ، وَالْكَلِمَاتُ إِلَى الْأَفْوَاهِ ، فالْحَيَاةَ أَصبَحت مَلْهًى لَا يُفْهَمُ! فَالْعَقْلُ أَصْلٌ، وَالْآلَةُ تَبَعٌ للأصل، وَإِلَّا فَالتِّكْنُولُوجْيَا كَالْغُولِ تَأْكُلُ مَنْ لَا يَأْكُلُهَا !

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى