هكذا تحدث عز الدين نجيب عن الصامتين وتجاربهم في الثقافة والديمقراطية

إعداد وقراءة : الشاعر / نور سليمان

صدر مؤخرا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية، كتاب”الصامتون..تجارب في الثقافة والديموقراطية بالريف المصري”، لمؤلفه الفنان التشكيلى والكاتب والمؤرخ عز الدين نجيب”، وهذه الطبعة هي الثانية من الكتاب، بعد نفاد النسخة الأولى منه فى غضون ايام قليله ..

ويعد هذا الكتاب لما يحمله من تأريخ لفترة من فترات مصر التاريخية إلا أنه يعد تجربة فريدة فى إدارة المواقع الثقافية والمكتبات ويعد مرجعا مهما وحيا لمن يريد أن يدير موقعا ثقافيا وأدبيا على مستوى جيد وتنويرى وحقيقى.

وقبل ان نبحر معا داخل أروقة الكتاب .. لابد للقارئ الذى لايعرف مؤلفه ان يقرأ هذه التقدمة البسيطة..

عز الدين نجيب … قامة ثقافية كبيرة … تحمل فى ثنايا إبداعها هموم الوطن والمواطن .. تباريح المثقف والأمة … نضاله العنيد.. مشكلته الكبرى مع السلطة أحيانا.. ومع المثقف الذى يقبع داخله .. إنه الفنان التشكيلى الكبير عز الدين نجيب.

صدر له خمس مجموعات قصصية منها: “عيش وملح، أيام العز، المثلث الفيروزي، أغنية الدمية، مشهد من وراء السور.
ومن كتبه في النقد الفني، “فجر التصوير المصري الحديث”، “التوجه الاجتماعي للفنان المصري المعاصر”، “الأنامل الذهبية”، “مرسوم الفنون التشكيلية” .

ولد محمد عز الدين نجيب بمحافظة الشرقية فى 30 / 4 / 1940 وكان تخصصه فى كلية الفنون الجميلة (قسم تصوير ) عام 1960، أقام 26 معرضاً فردياً بين الاسكندرية والقاهرة وعواصم المحافظات فى الحركة الفنية بمصر منذ 1964.

ولنبحر فى الذاكرة الابداعية للمثقف والفنان المبدع / عز الدين نجيب..
الكتاب فى جزئين، الجزء الأول تحت عنوان “القافلة”، أما الجزء الثاني بعنوان “برج النور”..

وقد أهدى نجيب هذا الكتاب فى مقدمة الطبعة الأخيرة لشباب 25 يناير، وذلك بهدف أن يؤرخ لجهدهم ونضالهم لدعم الثورة، ويؤكد ايضا فى المقدمة على الخطوط الرئيسة والمناطق والشعارات الأساسية لها، والمتمثلة في “خبز – حرية -عدالة إجتماعية”.

يتناول المؤلف فى هذا الكتاب الهام من وجهة نظرى، اهم المراحل التاريخية التي مرت بالشعب المصري، وبخاصة هذا الجيل (جيل الشباب) والذين ناضلوا بعزيمة وأصرار وبحنكة استلهموها من خلال استفادتهم من التطور التكنلوجى وتقنية العصر حتى يصلوا الى مرحلة ما اسماها ب ( تفجير الثورة ) وشاء المؤلف إلى تأريخ هذه الفترة وقسمها إلى عدة مراحل .

تجسدت تلك المراحل في أعوام من الصمت، وصلت لثلاثين عاماً، تناول فيها الكاتب الحكمة من صمت الشعوب، مترائيًا أن صمت المصريين طوال تلك الأعوام لم يكن من باب الضعف أو الاستكانة ، ولم يكن تهاونا او قلة حيلة ، بل كان حكمة يدركها الشعب المصرى بصلابته وترويه وحسن تقديرة لمصائره، ولكن نجيب الذي تعرض للاعتقال بسبب مواقفه السياسية حذف إهداء كتابه (الصامتون.. تجارب في الثقافة والديمقراطية بالريف المصري) والذي خص به ابنته نسرين وكتب إهداء جديدا للطبعة الجديدة على النحو التالي “إلى شباب 25 يناير 2011… الأمل أن تكون ثورتكم التالية هي الثورة الثقافية ليكتمل بها ما قمتم به”.
فقد اعتقل نجيب عام 1997 بتهمة طبع منشورات تحرض الفلاحين على معارضة قانون العلاقة بين المالك والمستأجر.

ويضم كتاب (الصامتون.. تجارب في الثقافة والديمقراطية بالريف المصرى) في الريف تجربتين ثقافيتين كان فيهما المؤلف جزءا من حراك اجتماعي وثقافي مكنه من اكتشاف الهوة الواسعة بين المثقفين في عوالمهم الافتراضية النظرية والواقع الذي يقول إنهم منفصلون عنه.

ويسجل المؤلف أن لدى “الجمهور الفقير الأمي” استعدادا فطريا للتجاوب مع الثقافة والفنون، مستشهدا بتفاعل الفلاحين مع عروض مسرحية لمؤلفين غير مشهورين من خارج القاهرة منهم الروائي فؤاد حجازي الذي قدم له مسرحية من فصل واحد عنوانها (الناس اللي ما معاهاش )

وفي مقدمة الطبعة الجديدة يتساءل نجيب.. لماذا ؟؟؟
ثم يجيب قائلا : إن الصمت “آفة الشعوب المغلوبة …. آفة عندما يستوجب الحال أن تنطق وتصرخ ولكن يمنعها عن التعبير خوفها وضعفها فيصبح الصمت تواطؤا مع الظلم والفساد ويصبح الخوف تكريسا لسلطة القهر مضيفا أن الصمت يكون حكمة وموقفا من الطغيان حتى يمتلك الشعب أدوات المقاومة.

ويري نجيب أن الوعي بأسباب الظلم هو المادة اللازمة لتحويل الصمت من “آفة إلى طاقة”
وإلى فعل للمواجهة بشرط وجود طليعة ثقافية تتعامل مع “الصامتين وتمنحهم الأمل وتكتشف الطاقات الإيجابية فيهم بعيدا عن تعالي المثقفين.

ولا يستكثر نجيب أن يتمكن شباب بلاده من استنهاض همة الشعب ويفجروا شرارة ثورة تطيح بنظام بوليسي وهو ما كانت الأجيال السابقة تحلم به وأحيانا تراه بعيد المنال.

وعن عمله فى المجال الثقافى يذكر فى موضع آخر من الكتاب
انه عمل مديرا لقصر الثقافة في مدينة كفر الشيخ في الدلتا واكتشف أن المثقفين “لا يعملون شيئا وسط هذه الجماهير” ولكنه وجد هناك التشكيلي محمود بقشيش والشاعر محمد عفيفي مطر الذي كان قد أمضى أكثر من عشر سنوات مدرسا “غريبا ووحيدا” في القرى المنسية الفقيرة وتمكن نجيب من ندبهما للعمل الثقافي العام .. وفى ذات السياق.

يضيف أن العروض المسرحية الإقليمية جذبت ممثلين بارزين من القاهرة منهم حمدي غيث وغيره من الممثلين المعروفين لدى جمهور القرى الفقيرة
كما كان يشارك في الأنشطة الثقافية الأخرى شعراء بارزون منهم الشاعر الكبير عبد الرحمن الابنودى والشاعر صلاح جاهين والناقد الفنى كمال جويلى.

ويقول ايضا فى ذات السياق إنه نظم عرضاً لغناء جماعي من التراث الشعبي، قدمته فتيات ريفيات.

وعن تجربته يقول إن “الآلة الثقافية” التي ساهمت في تفجير حالة الوعي لدى الفلاحين المصريين في نهاية الستينيات في كفر الشيخ هي سيارة القافلة، وإنهم مارسوا “الحلم والفعل والتحدي بغير كوابح أو خوف.. أليس هذا ما فعله شباب 25 يناير 2011 الذين تمكنوا من خلع الرئيس السابق حسني مبارك بعد احتجاجات دامت ثمانية عشر يوماً.
وفي علاقته بأعضاء الفرقة المسرحية بكفر الشيخ وبالشاعر محمد عفيفي مطر خلال فترة عمله مدرسا بقري المحافظة، وأظن أن الأبنودي وحجاب والغيطاني كانوا محظوظين حين قضوا معه في السجن قرابة تسعة أشهر، ولهذا لم يكن صديقاه الشاعران ينقطعان عن زيارته في مدينة دسوق وقضاء أيام معه بين الحين والآخر..

كان قلبه شديد الاتساع مليئا «بأنزيمات الحب»، لهذا كان قادرا علي احتضان كل الناس، وكان هذا هو معني الوطن عنده.. وبينما كانت هزيمة 67 تنهش صدورنا وتحبط أحلامنا وتشل إرادتنا – نحن الشباب في العشرينيات من أعمارنا – كان النويجي لا يكف عن العمل وعن الدعم المعنوي لنا، كان طاقة ديناميكية هائلة ومُعدية لمن حوله، حتي لمن دفعته الظروف المظلمة إلي الاكتئاب، فتتفتح مسام روحه وتزهر بالأمل والحيوية.

وعندما اشتطت «الأجهزة» – وعلي رأسها إبراهيم بغدادي محافظ كفر الشيخ – في حربها ضد القصر، إلي حد إلغاء انتداب كل العاملين به وكل أعضاء الفرقة المسرحية، وتركه وحيدا داخل المبني بدون موظفين أو أي إمكانيات للعمل، ثم تمادي فأرسل الأوناش لهدم سور المبني وبعض جدرانه لإرغامي علي مغادرته والفرار إلي القاهرة، كان علي النويجي يأتي إلي ومعه د. جلال رجب وفريق دسوق ليشد أزري وُيسري عني مشبها إياي – وهو يضحك ضحكته المدوية – بزوربا اليوناني وفطرته المحطمة!

وعندما استدعاه شعراوي جمعة وزير الداخلية وأمين تنظيم الاتحاد الاشتراكي إلي مكتبه ومعه جلال رجب وأحمد حمروش «رحمهم الله جميعا» ليشهدوا ما سيفعله بي أمامهم من تأنيب وتهديد بالاعتقال، باعتبارهم أولياء أمري السياسيين القادرين علي إثنائي عن عنادي في مواجهة المحافظ «رئيس جمهورية الإقليم» علي حد قوله، كان علي النويجي يتملص وهو يضحك طول الوقت متقمصا دور طبيب أرياف «علي قد حاله» ولا شأن له بالسلطة وأكابر القوم مثلنا «أبناء مصر»، فيستشيط الوزير غضبا وهو يشعر بأن الرجل يسخر منه، لكن ماذا كان بوسعه أن يفعل له وهو يتقمص شخصية فلاح ماكر في مواجهة السلطة؟!

لكن هذا الريفي البسيط كان قادرا – حقيقة – علي قيادة حركة هائلة من النضال من أجل حقوق الطبقة الأكثر تعرضا للاستغلال والقهر علي مر العصور في مصر.. أعني الفلاحين، وعلي الإسهام في وضع نظرية مصرية للمسألة الفلاحية، وعلي النفاذ إلي عمق الآبار الجوفية لثقافة الفلاحين ووعيهم المشوه في ظل عصور القهر، ثم علي الأخذ بأيديهم نحو أمل جديد في عالم يخلو من الظلم..

لقد رأيت بنفسي كيف يتحدث مع الفلاحين بلغتهم وثقافتهم، وكيف يتحولون معه بعد قليل إلي «عاشق ومعشوق» بحس إنساني يتجاوز مستوي السياسي والمثقف النخبوي، وهو يفعل ذلك – بنفس القدر من الإنسانية – مع أهل النخبة، مخاطبا كل بلغته الخاصة

وعن علاقته بالكتاب يقول عز الدين نجيب فى حديث لاحدى المجلات :
علاقتي بالكتب تعود إلى زمن الطفولة، حيث كنت أعمل مع المكتبة الصغيرة التي تخص والدي في المنزل، كان هذا الكلام في عامي 9148 و1949م في قرية مشتول السوق بمحافظة الشرقية، وكان والدي يعمل مدرساً ثم ناظرا، عاشقا للثقافة ويقرض الشعر العمودي، وكعادة مثقفي الريف فقد كانت له جذوره الدينية الخاصة بالقرآن الكريم والحديث الشريف.

وحين سأل عن المثقف ودوره الذى يبدو باردا تجاه ما يحدث قال
: معظمهم يجلسون في البرج العاجي وينظرون إلى الواقع عن بعد، حيث تشغلهم همومهم الذاتية أكثر من هموم المجتمع وهموم المواطن الصغير وهموم الطبقات الكادحة وهموم السلطة بصراعاتها العميقة لاقتناص الديمقراطية لحسابها الذاتي ، وهذا ناتج في الأصل عن فكرة التهميش التي أشرت إليها، بين السطور.

لكن ليس من العدل أن نعمم هذا الكلام، فهناك قوى شاركت بالفعل في التغيير وأخص منهم الأدباء والفنانين تحت مستوى النجومية الذين شكّلوا عصب حركة المقاومة، وهم الآن الذين يشكلون جبهة الدفاع عن الإبداع ضد تسلط التيار الإسلامي المتشدد، لكن في المقابل هناك فئة ارتضت أن تكون في الصفوف الخلفية، منتظرة ما تسفر عنه الأحداث حتى يحددوا موقفهم منها ودافعهم الأصلي هو المصلحة الشخصية وليس إيمانهم بمشروع نهضوي للأمة، وهذا أمر منطقي في أي ثورة ستجد فيها الانتهازيين، كما ستجد فيها المناضلين، وهناك المترددون الذين لا يتخذون مواقف حاسمة كذلك.

بقى أن نقول :
إن هذا الكتاب “الصامتون.. تجارب في الثقافة والديمقراطية” يعد مسيرة للصمت، حيث يصمت المثقفون أمام حاكم مستبد ونظام يكبح الحريات، وواقع ثقافي بلغ درجة مزرية من التدني، نظراً لارتفاع نسبة الأمية إلى 40 بالمئة، يصمت المثقفون على موقف سريالي يجعلهم هم المنتج والمستهلك لما يبدعون خارج الساحة دون أن يحرك مشاعرهم كونهم معزولين في هامش ضيق على متني المجتمع، يصمت المثقفون على واقع يجعلهم بعيدين عن سلطة اتخاذ القرار والمشاركة في تقرير مصير بلدهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى