نور القاضى تكتب: “البَحثْ عَن الذات”

الحياة ليست بحثاً عن الذات، ولكنها رحلة لصُنع الذات، فإخلق من نفسك شيئاً يصعُب تقليدُه. – سُقراط.

هَلْ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يَتَحَوَّلَ شُعُور وإحساس الْمَرْءُ مِنْ حَالِ إلَى حَالِ؟ هَلْ مِنْ الطَّبِيعِيِّ أَنْ يَتَبَدَّلَ شُعُور الْإِنْسَانِ مِنْ النَّقِيضِ إلَى النَّقِيض بِمُرُور الْأَيَّام؟ هَلْ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ مَا نَحْبَه الْيَوْمِ لَا نتحمله غداً؟ وَمَا كُنَّا نَسْعَى لِلْوُصُولِ إلَيْهِ وَالسَّعْي وَرَاءَه فِى الماضى أصْبَحَ كُلُّ تفكيرنا الْآن كَيْفِيَّة التَّخَلُّصِ مِنْهُ؟ مَا الَّذِي يَجْعَلَنَا نَقُوم بِمَا لَا يخطر عَلَى بَالُنَا فعله فِي يَوْمِ مِنْ الْأَيَّامِ؟ مَا الَّذِي يدفعنا للإنزلاق فِى مَتاهَة الْمَتَاعِب وَالْآلَام وَالْحِيرَة؟ لِمَاذَا لَمْ تَسْتَقِرَّ الْأُمُورِ كَمَا رسمناها وتخيلناها مُنْذُ البداية؟ هَلْ هِيَ طَبِيعَة بَشَرِيَّة أَم طَبِيعَة الْحَيَاة؟

حَاوَل كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ الإقتراب مِنَ فَهْمِ طَبِيعَة وسيكولوجية النَّفْس الْبَشَرِيَّة وَلَكِنْ كُلُّ المحاولات لَم تَقْتَرِبْ مِنَ فَهْمِهَا أَوْ تَوَقُّعُ ميولها فِي الْمُسْتَقْبَلِ. فَمَن الصَّعْب جداً مَعْرِفَة زَوَايَا وَطَبِيعَةٌ النَّفْس الْبَشَرِيَّة وَلَيْسَ هُنَاكَ كَتالُوج لِشَرْح ما يمكن أَنْ يَفْعَلَهُ الْإِنْسَانُ أَوْ مَا سينحذب لَه ويحوذ شغفه بَعْدَ مُرُورِ الْوَقْتِ أَوْ تَوَقُّعُ مَا سيشعر بِه وَيُحِبُّه أَوْ يَكْرَهَهُ بِنَاءً عَلَى مُعطيات الْحَاضِر. بل يأتى غالباً ودائماً لَنَا الْمُسْتَقْبَل عَكْس كُلّ التوقعات.

ودَائِمًا مَا يَكُونُ تَفْسِيرِنَا فِى تَغَيُّر أَحْوَالِنا وَتَبَدُّل شعورنا مُلْقى على الْآخَرِينَ. فنقذف بِكُلّ اللَّوْمُ عَلَى الْآخَرِينَ وَعَلَى ظُرُوف الْحَيَاة فَمَثَلًا نَقُول: “لَيْسَ هَذَا هُوَ الشَّخْصُ الَّذِى انْجَذَبَت لَهُ مُنْذُ البِدايَةِ لَقَد تَغَيَّر كثيراًأَوْ تَقُولُمن الْمُؤَكَّد أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ اخْتِيَارِيٍّ عَلَى صَوابٍ مِنْ الْبِدَايَة وَلَكِنِّي لَمْ انتبهلَقَد كِدْنَا أَنْ نقترب مِنْ الْحَقِيقَةِ وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ كُلُّ الْحَقِيقَةِ. فَهُنَاك فِى ذَلِكَ التَّفْسِير جُزْء فَقَطْ مِنْ الصَّوَابِ ولكن ليس كل الصواب. فَمِنْ الْمُحْتَمَلِ أَنْ نخطىء فِعْلًا فِى اختياراتنا فِى الْبِدَايَة بِحُكْم قِلَّة الْخِبْرَة والِانْدِفَاع والتسرع والتحفز لِبَدأ رَحْلِه الْحَيَاةِ أَوْ بِسَبَبِ عَدَمِ ضَبْطِ النَّفْسِ وَالتَّفْكِير بعقلانية أَكْثَر وَالْمِيل لرغبتنا فِى بَدَأ التَّجْرِبَة بِدُون تَحْكِيم الْعَقْل بِشَكْل كَافِي، وَلَكِن عَلَيْنَا الْآنَ أَنَّ نصطدم بِالْحَقِيقَة الْكَامِلَة وَلْتَكُن هَذِهِ الْحَقِيقَةُ وَاضِحَةٌ بلعاريةفَمَا نَغْفُل عَنْهُ أَنَّ التَّغْيِيرَ الْأَكْبَر بِنَا أَنْفُسِنَا لَيْس بِالْآخَرِين وَالتَّحَوُّل الرَّئِيسِيّ بِنَا أَنْفُسِنَا وَلَيْس بِالْآخَرِين أَو بِالظُّرُوف. نَحْنُ مِنْ تَغَيُّرِ إحساسنا تجاه الْأَشْيَاء وَتَبَدُّل شعورنا تجاه الْأَشْخَاص. أَصْبَح مَا يسعدنا فِى الْمَاضِي لَا يسعدنا الْيَوْم. أَصْبَح مَا نشتهيه بِالْمَاضِي لَا نشتهيه الْيَوْمَ حَتّى وَصَلَ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ لذوقنا وإختياراتنا. فَيَحْدُث بِأَن تَقَابَل صَدِيق لَك مُنْذ أَعْوَام وتجده قَدْ اخْتَلَفَ كثيراً عَنْ مَا اعْتَدَّتْ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ. تَجِد الِاخْتِلَاف فِى كُلِّ شَىْءٍ فَتَقُول فِى نَفْسِكَلقد تَغَيَّر جِدًّا بَلْ تبدل“.

نعم نَحْنُ مِنْ كُنَّا نعشق فِي الماضى حَدّ التَّطَرُّف وَالْآن لَا شَىْءٍ لاَ حُبَّ لَا رَغْبَةَ لَا حَيَاةَ.

نعم نَحْنُ مِنْ كَانَ لَدَيْنَا كُلّ الْإِقْبَالِ عَلَى الْحَيَاةِ وَعَلَى الْآخَرَيْنِ حَدّ التَّهَوُّر.. وَالْآن أصبح كل مَا نفكر بِه انْتِهَاء يَوْمِنَا وَانْتِظَار مَوْعِد النوم.

نعم نَحْنُ مِنْ كُنَّا أَكْثَرَ مُسانَدَة وَمُثَابَرَة لِلْآخَرِين حَدّ التَّضْحِيَة وَالْآن نَحْتَاج مِن يساندنا ويدعمنا ويحنو عَلَى قُلُوبِنَا وينير لَنَا الطَّرِيق.

لِذَلِك عَلَيْنَا أَنْ نَعْتَرِف أَنَّ التَّغْيِيرَ الأكبر بِنَا نَحْنُ وَليس بِالْآخَرِين، إن أَسْوَأُ مَا يشعر بِهِ الْمَرْءُ هُو شُعُورُه أَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا الَّذِي يُرِيدُهُ؟ فَإِذَا عَلِمْت مَاذَا تُرِيدُ فَهَذِه فِي حَدِّ ذَاتِهَا سَعَادَة كُبْرَى لِأَنَّك وُجِدَت هَدَفَك ومطلبك فِي الْحَيَاةِ تَسْعَى إلَيْه وَتَعَلُّمُه جيداً. فَلَقَدْ رَأَيْتُ بِعَيْنَيْك نُقْطَة وُصُولَك أَمَامَك مِنْ قِبَلِ حَتَّى أن تَبْدَأ وَالطَّرِيق مِنْ حَوْلِك مُنِير بِمَصَابِيح الْأَمَل وَالْحَبّ والمساندة. أَمَّا إذَا كُنْت لَا تُعْلَمُ مَاذَا تُرِيدُ فَأَنْت تَمْشِي فِى طَرِيقِ أيضاً وَلَكِنَّك كَالْأَعْمَى التَّائِه فَأَنْت لَا تَرَى شَيْئًا تَمَشَّى فِى الظُّلُمَات بِلاَ هَدَفٍ فَلَا نُورٌ وَلَا وِجْهَه.

عَلَيْكَ أَنْ تَبْحَثَ عَنْ ذَاتِك أوَّلاً وَقَبْلَ كُلٌّ شَىْءٍ، عَلَيْكَ أَنْ تَعْرِفُهَا جَيِّدًا وَتَفَهُّمِهَا جيداً، وَعَلَيْك قَبْلَ أَنْ تَبْحَثَ عَنْ الْحُبِّ فِي الْآخِرِينَ عَلَيْكَ أَنْ تَبْحَثَ عَنْهُ فِي ذَاتِكَ أَوَّلًا، وَقَبْلَ أَنْ تَسْعَى لِفَهْم الْآخَرِين عَلَيْكَ أَنْ تَفْهَمَ ذَاتِك أَوَّلًا، وَقَبْلَ أَنْ يَكُونَ هَدَفَك مَعْرِفَة الْآخَرِين جيداً لَتَصِل للنجاح فِي أَىّ عِلاقَة، عَلَيْكَ أَنْ تَتَعَرَّف عَلَى ذَاتك أَوَّلًا فعليك ان تُكَوِّن عِلاقَة نَاجِحَة مَع ذَاتِك أَوَّلًا. فلتبدأ مِنْ جَدِيدٍ مَع ذَاتِك كَأَنَّك حَدِيثُ عَهْدٍ بِهَا ولتبحث عَنْ ذَاتِك وفي ذاتك أَوَّلًا ثُمَّ تَبْدَأ فِي الْبَحْثِ فِي العَلاَقَات. فَلَا تقطع طريقاً وَأَنْتَ لَا تُعْرَفُ جيداً مَسْلَكَه وبدايته وَنِهَايَتِه. وَلْتَكُن ذَاتِك هِي النَّجْم الْمُنِير وَخَيْر هَادِي لَك فِي رحلة الْحَيَاة فتضيىء لك ذَاتِك كُلَّ دُرُوب الْحَيَاة. وَلِتَعَلُّم جيداً أَنَّ الْبِدَايَةَ دَائِماً هِي ذَاتِك أَنْتَ وَمَنْ ذَاتِك أَنْت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى