“كوكا” أشهر بدوية في السينما

كتب/ أشرف بيدس

ظهرت “عبلة” بنت قبيلة بنى عبس على شريط السينما فى تلك الصحراء الشاسعة القاحلة، حتى ظننا إنها بنت هذا الفراغ الذى لا ظل لنباته، ولا صوت لحياته، إلا هزيز الرياح وصفيرها الموحش، ترعى ماشيتها وتحلب لبنها، ترتدى صوفها وتنام على وبرها، وعندما يحل الليل تنظر للسماء ولا نعلم إذا كانت تحصى نجومها أو تسألها عن فارسها المغوار “عنترة” الذى ذهب لبلاد النعمان ساعيا لاحضار ألف ناقة حمراء مهرا لها، حتى أن الكثيرين ممن قتلهم الشوق بحثوا فى هذا الخلاء الفسيح عن دليل يرشدهم أو آثار أقدام يقتفون أثرها لعلهم يلمحوا طيفها السارح فى البيداء، لكنها السينما سامحها الله، التى ذهبت بالعقول وأوهمت الناس بأن “نجية إبراهيم بلال” الشهيرة بـ “كوكا” هى “عبلة العبسية”.

ظلت حياة كوكا (7-3- 1917 – 29-1 -1979 ) العائلية متأرجحة ما بين الصعود والهبوط، لم تستقر على حال، نشأت بين والديها، الأب سودانى والأم مصرية، وعاشت حياة هادئة، يرحل الأب، وتترك أمها لتعيش فى كنف عمتها، التى تلحق هى الاخرى بأخيها، وتلتقطها أسرة تركية كانت تربطها صلة قرابة بالعمة لتقوم على تربيتها ورعايتها، فتلحقها بمدرسة “الميردى دييه” وتبدأ فى تعلم التفصيل والعزف على البيانو كإحدى بنات البيوتات الكبيرة لا ينقصها شيئا، كل ما تطلبه يجاب ويلبى لها، هكذا تبدو الأمور أنها تسير فى الاتجاهات الصحيحة لفتاة يتفتح وعيها على الدنيا، لكن حمى الفن تصيبها، وفى أحد الأيام تبادر بمفاتحة الأسرة برغبتها فى الاشتغال بالفن، وهنا تثور الثائرة بالرفض الشديد والتوبيخ، فكيف لها أن تجرؤ وتفكر فى هذا الأمر الشائن، تبتئس الفتاة وتمرض مرضا خطيرا يهدد حياتها، لكن الأسرة يتفتق ذهنها عن حل اعتقدت انه سيسير بالأمور لبر الأمان، وهو الموافقة على خطبتها من ضابط تركى طلبها للزواج، تهدأ الأمور قليلا، حتى تفاتح “كوكا” خطيبها فى رغبتها بالاشتغال بالفن، وهنا تتعقد الأمور أكثر بعد رفض الخطيب وفسخ الخطبة، فى تلك الفترة تلتقى بالصدفة مع سراج منير وتطلعه على رغبتها، فيطلب منها الحضور لمسرح رمسيس وتسند لها بعض الأدوار الصغيرة، وهنا تنقطع كل الخيوط بينها وبين العائلة التركية التى كانت تحتضنها، وتقرر العودة لتعيش مع أمها، وكان عليها البحث عن عمل لتعيل نفسها وأمها على الحياة، فلم تكن هذه الأدوار تكفى لتلبية الاحتياجات، لذلك لم تجد حرجا أن تطلب من أحمد سالم إلحاقها بأى عمل فى أستوديو مصر، وبالفعل تتسلم وظيفة بقسم المونتاج الذى كان يرأسه نيازى مصطفى القادم من ألمانيا بعد بعثة دراسية هناك، لكنها تثابر حتى تشترك فى بعض الأفلام التى تنتجها شركة مصر للتمثيل والسينما التى تمتلك الأستوديو، وتشارك أمام على الكسار عام 1935 فى فيلم «بواب العمارة» فى دور صغير٫

كما شاركت أم كلثوم فى فيلم «وداد» عام 1936، ومن خلال هذا الدور يلتقطها مخرج انجليزى ويعرض عليها دورا رئيسيا فى فيلم «تاجر الملحِ»1937 أمام الممثل بول روبسون وتسافر إلى انجلترا وتبلى بلاء حسنا، وتعتقد أن الأمور ستتغير عند عودتها إلى مصر، وأن البطولات ستلقى عليها من كل حدب وصوب، لكن لا شيء تغير، حتى حجرة المونتاج التى تركتها قبل السفر، تعود إليها مرة أخرى، وكأن ما حدث كان حلما سرعان ما انطفئ بريقه بطلوع النهار، وكان لذلك تأثيرا كبيرا على نفسيتها، لكن وجود نيازى مصطفى أزاح كثيرا من هذه الآثار حتى بدأ الحب يدق قلبيهما، وتوطدت علاقتهما أكثر وأكثر، ورغم إصابتها بشرخ فى العمود الفقرى استدعى مكوثها أكثر من سنة داخل قفص جبسى، حطمت سهام الحب كل قيود الانتظار وتم عقد القران الذى استمر حتى وفاتها ولم يسفر عن أولاد.

– من أصل سوداني وقامت بتربيتها أسرة تركية

إذا كانت أقدارها قد هيأت لها لقاء مع زميل العمل الذى أصبح فيما بعد زوجا، فهى أيضا تغدق من كرمها عليها، فقد آمن الزوج بموهبتها، وقدمها فى رابع أفلامه «مصنع الزوجات» 1941 وكأنه يعوضها عن حلم البطولة الذى انتظرته بعد عودتها من انجلترا، لكن الفيلم لم يحقق النجاح المنتظر منه، لكنه ساعد على انتشارها ووضعها على الطريق الصحيح، ويأتى فيلم «رابحة» 1943 وهو التعاون الثانى بينهما، ويشاركها البطولة بدر لاما وسراج منير وعباس فارس، ويحقق الفيلم نجاحا كبيرا.

ويكتشف نيازى مصطفى ملامح شخصية كوكا السينمائية والتى لم تحيد عنها وتجسدت فى فتاة البادية، باستثناء عمل واحد وهو «سيجارة وكأس» 1955 أمام سامية جمال ونبيل الألفى، والحقيقة رغم المجهود الكبير الذى بذل من جانبهما (نيازى وكوكا) لم تستوعب الجماهير رؤيتها وهى مرتدية فستان سواريه وتمسك بيد كأس شمبانيا وبالأخرى سيجارة، فقد انطبعت فى ذاكرتهم بأنها فتاة البادية التى تحفظ التقاليد وتحارب من أجلها، حتى أنها لم تعاود التجربة مرة أخرى وظلت حبيسة تقاليد البدو رغما عنها، وسجنت موهبتها فى نمط واحد فرضه الجمهور عليها وهى سابقة لم تتكرر، ربما لو كان حدث تدرج بطيء من الانتقال لكان من الجائز أن يقبل الجمهور، لكن التحول كان مفاجئا أحدث صدمة لدى الجماهير.

بدأت “كوكا” بعد فيلم «رابحة» تلعب على ذات التيمة بتحريض من “نيازي”، وتصبح هذه النوعية من الأعمال علامة مسجلة فى تاريخها وتتوالى الأعمال “عنتر وعبلة 1945، “راوية” 1946، “سلطانة الصحراء” 1947، “ليلى العامرية” 1948، “سر الأميرة” 1949، “وهيبة ملكة الغجر” 1951، ارض الأبطال 1952 “الفارس الأسود” 1954، “سمراء سيناء” 1959، “عنتر بن شداد”1961 ، “بنت عنترة” 1964 “كنوز”1966، “عنتر يغزو الصحراء”1970. وليس هذا معناه أن تعاونها مع نيازى مصطفى حدد من إمكاناتها، والدليل أن أفلامها مع الغير لم تظهرها فى صورة أفضل مما كانت عليها، ولم تحقق لها شهرة أو رصيد فنى كبير، وتمثلت هذه الأعمال مع إبراهيم عز الدين فى «ظهور الإسلام» 1951، و«غرام بثينة» مع جلال مصطفى، و«السيد البدوى» مع بهاء الدين شرف 1953.

أثار هذا الثنائى الفنى حفيظة النقاد، فمرة يتهمونها بالتسلط وفرض نفسها على أعمال زوجها، ومرة يتهمونه بالانحياز لزوجته، رغم ان كل رصيدها خلال أكثر من أربعين عاما 23 فيلما منها فيلمان بمشاركة متواضعة وآخر فيلم أجنبى، وهو رقم متواضع جدا، إذا عرفنا أن جملة أعمال نيازى مصطفى تجاوزت 110 أفلاما.

– تفرغت في السنوات الاخيرة من حياتها للعمل

في العقارات

عاشت كوكا حياة هانئة مع زوجها لم يعكر صفوها سوى عدم إنجابها أطفالا، لكن ذلك لم يؤثر على العلاقة بينهما، حتى عندما تزوج نيازى مصطفى من الراقصة نعمت مختار، سرعان ما عادت المياه مرة أخرى إلى قنواتها الشرعية.

– اشتغلت بالمونتاج.. ومثلت في فيلم انجليزي

تمتعت “كوكا” بشخصية قوية ومتزنة، واستطاعت فى أوقات كثيرة أن تجتاز مشاكل كانت كفيلة بتحطيم حياتها الأسرية، كما كانت لها عقلية مالية مكنتها من حسن إدارة أمورها واستطاعت أن تبنى عمارة فى ميدان الجيزة حملت اسمها، كما اقتحمت مجال الإنتاج وكونت شركة عرفت باسم “السهم الذهبى” قدمت (عنتر وعبلة وسيجارة وكأس)، ثم اعتزلت العمل الفنى وتفرغت لتجارة العقارات، كان آخر أفلامها أمام محمد صبحى «انكل زيزو حبيبى» 1977.

يسدل الستار على حياة بدوية السينما بعدما يتملك منها داء خبيث لم تفلح معه محاولات العلاج المستمرة، تاركة الساحة الفنية، وتبقى أعمالها وسيرتها بيضاء ناصعة لا تشوبها شائبة محتفظة باحترام الكبير والصغير، وسجلت باسمها أعمال لم يقترب منها أحد حتى يومنا هذا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى