السيد الجمل يكتب: أيتامٌ بآباءٍ أحياء “مشردون داخل بيوتهم”
بينما كان “آدم ” الصغير يربط حذاءه الرياضي بحماس، لم يكن يستعد لمباراة كرة قدم، بل كان ينتظر “موعد التسليم والاستلام” وكأنه “طرد بريدى” حقيبته فوق كتفه لا تحمل كتباً، بل تحمل شتات روحه الموزعة بين بيتين لا يجمعهما سوى الحطام. بالخارج، الأب ينتظر بلهفة لا تنطفئ، وبالداخل الأم تراقب الساعة ببرودٍ يقتل الدفء. حين فُتح الباب، لم يجد (آدم) حضناً، بل وجد ورقةً رسمية تُوقع، ونظراتٍ حادة تتبادلها الأطراف فوق رأسه، وكأنه (طردٌ بريدي) ثقيل الظل. في تلك اللحظة، لم يكن بحاجة إلى مصروف؛ كان يحتاج فقط إلى أن يكفوا عن تمزيقه.. لكن صرخته ظلت حبيسة، فهو (اليتيم) الذي لا يزال والداه يتنفسان!”
بينما تقرأ هذه الكلمات، هناك قاضٍ يطرق مطرقته، أو مأذونٌ يغلق دفتره ليعلن نهاية “ميثاق غليظ”. خلف هذه الإجراءات الرسمية، لا تنهار عقودٌ ورقية فحسب، بل تنهار جدرانٌ كانت تأوي أرواحًا صغيرة، لتترك وراءها جيشًا من “أيتام الأحياء”؛ أطفالٌ يملكون آباءً في بطاقات الهوية، ومفقودين في واقع الحياة.
في غرفٍ باردة، وخلف شاشات الهواتف الصامتة، ينمو جيلٌ جديد لا يعرف من اليتم مرارة الفقد بالموت، بل مرارة الوجود مع الغياب. إنهم “الأيتام والأباء أحياء”؛ ضحايا ” وباء الطلاق ” من التفكك الأسري وارتفاع معدلات الطلاق التي باتت تضرب أركان المجتمع كإعصار لا يبقي ولا يذر.
دائمًا ما ارتبطت كلمة “يتيم” بفقدان أحد الوالدين تحت تراب القبر، لكن الواقع اليوم يكشف عن نوعٍ أقسى من اليتم؛ طفلٌ يرى والده في “ستوري” على إنستجرام، ويسمع صوت والدته في مكالمة خاطفة، لكنه لا يجد حضنًا يضمه حين يمرض، أو يدًا تمسح على رأسه حين يخاف.
هؤلاء هم “المشردون داخل بيوتهم”، الذين صاروا وقودًا لمعارك قضائية، ووسائل للضغط المتبادل بين زوجين قررا إنهاء رحلتهما، بكلمة “الطلاق ” كلمة واحدة ظنوا أنها خفيفة لكنها أثقل من موازين الأرض ، ونسيا أن هناك “ركابًا” في هذه الرحلة لم يختاروا النزول في منتصف الطريق .
وموسم الطلاق وباءٌ يهدد المجتمع ككل وتشير الإحصائيات الأخيرة إلى تصاعد مخيف في حالات الطلاق، لدرجة أننا أصبحنا نعيش ما يشبه “العدوى الاجتماعية”. لم يعد الطلاق “آخر الدواء”، بل أصبح لدى الكثيرين “أول الحلول”.لم تعد القضية مجرد “خلافات أسرية”، بل أصبحت “نزيفًا وطنيًا” تؤكده الأرقام الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بنهاية عام 2024، والتي كشفت عن حقائق تقشعر لها الأبدان
273,892 حالة طلاق سجلتها مصر خلال عام 2024، بزيادة قدرها 3.1% عن العام السابق.
750 حالة يوميًا بمعدل يقترب من حالة طلاق واحدة كل دقيقتين، ما يعني أننا نعيش في “موسم خطر” دائم ، وسجلت المحاكم أكثر من 11 ألف حكم نهائي بالخلع، ما يعكس تحولًا جذريًا في شكل الصراع داخل الأسرة المصرية.خلف كل رقم من هذه الأرقام، يوجد طفلٌ شُطر قلبه نصفين. في مصر اليوم، لم يعد اليتيم هو من مات أبوه، بل هو من قتله “التجاهل” أو “الكيد” بين المنفصلين. هؤلاء الصغار تحولوا إلى “أدوات ضغط” في ساحات المحاكم؛ الأب يمتنع عن النفقة نكاية في الأم، والأم تمنع الرؤية حرمانًا للأب، والنتيجة؟ طفلٌ يتيم الوجدان، يعيش تائهًا في رحلة “ترانزيت” لا تنتهي بين بيت الجدة وحضن الخالة.
وأرى أسباب كثيرة جعلت جدران المنزل تتهاوى
منها غياب الصبرو استبدال ثقافة “الإصلاح” بثقافة “الاستبدال” والصورة المزيفة ومقارنة الواقع القاسي بصور “السوشيال ميديا” المثالية والمضللة ، و فقدان القدسية حيث تحول الزواج من ميثاق غليظ إلى مجرد عقد مؤقت ينفسخ عند أول عقبة.
و في حالات التفكك الأسري، يتحول الطفل إلى “حقيبة سفر” تتنقل بين البيوت. يقضي عطلة الأسبوع هنا، وبقية الأيام هناك، بلا استقرار نفسي أو شعور بالانتماء. هذا “التشتت” يخلق فجوة في الشخصية، ويولد جيلًا يعاني من القلق، والاكتئاب، وفقدان الثقة في مفهوم الأسرة نفسه ، إن الطفل لا يحتاج إلى أب وأم يعيشان تحت سقف واحد فحسب، بل يحتاج إلى بيئة يسودها السلم. وحين يتحول البيت إلى ساحة معركة، فإن الرصاصة الأولى تصيب قلب الطفل”.
إن كثرة حالات الطلاق ليست مجرد أرقام في دفاتر المحاكم، بل هي “نزيف” في جسد الوطن. فالتفكك الأسري هو المنبع الأول للانحراف، والتسرب الدراسي، والاضطرابات السلوكية. نحن أمام “ناقوس خطر” يتطلب وقفة حازمة من المؤسسات الدينية، والتربوية، والإعلامية لإعادة الاعتبار لقيمة الأسرة.
إن وصولنا لمعدل حالة طلاق كل دقيقتين ليس وليد الصدفة، بل هو نتاج تداخل معقد بين الاستسهال الرقمي وغياب ثقافة ” البيوت أسرار ” حيث تبدأ الخيانة وتنتهي الحياة الزوجية بـ “كبسة زر” على منصات التواصل ، ونشر الغسيل القذر على الملأ، مما يجعل العودة مستحيلة.
كلمة أخيرة.. قبل إغلاق الباب وفي نهاية المطاف، إن التوقيع على ورقة الطلاق قد يستغرق ثوانٍ معدودة ، لكن أثره في روح الطفل يمتد لعقود. تذكروا جيداً أن المعارك التي تخوضونها بين جدران المحاكم، والانتصارات الوهمية التي يحققها طرفٌ على الآخر بنكاية الكيد وحرمان الرؤية، هي في الحقيقة هزائم نكراء لجيلٍ كامل. لا تجعلوا صغاركم يدفعون فاتورة اختياراتكم، ولا تتركوهم “حقائب سفر” تائهة بين محطات العناد. ارحموا أيتام الأحياء، ” فاليتم بالحيّ أوجع “، لأن الطفل حينها لا يبكي فَقْد الميت، بل يبكي قسوة الحيّ. رفقاً بقلوبٍ لم تختار الرحلة، فالبطولة ليست في فك الارتباط، بل في إبقاء “الوطن الصغير” آمناً حتى وإن تفرقت السبل.”



