السيد الجمل يكتب: جاسوس في جيبي”.. كيف سلب”الواي فاي” حياتنا؟

كانت الأجواء مشحونة بتوتر ‘قعدة الصالونات’ المعتادة ، أنا الشاب القادم من هدوء القرية وبساطتها، جالسٌ أمام عائلة زوجتي ، ‘أبناء المدينة’ الذين يرون خلف حدود المدينة عالماً مجهولاً، وان القرية تنحصر بين الزراعة والحقول وتربية الطيور . جاء السؤال المتوقع بنبرة قلقة ‘بنتنا متعودة على حياة المدينة إزاي هتقدر تعيش في القرية؟’. وبدون تفكير، وببراءة ريفية لم تتوقع الانفجار، أجبتهم بثقة: ‘يا جماعة متقلقوش.. دا بلدنا دخل فيها الواى فاى!’. ضجت القاعة بضحكاتهم التي اعتبروها ‘نكتة’ الموسم، بينما كنتُ أتكلم بجدية مطلقة. اليوم، وبعد مرور سنوات، أدركتُ أن ضحكهم كان في محله، لكن لسببٍ لم يتخيله أحد؛ فياليت ‘الواي فاي’ ضلّ طريقه عن قريتنا ، وياليته ما دخل! فقد أنقلب حال أبناء القرية واصبحنا نعيش فى عزلة تامة بسبب سطوة التكنولوجيا على بيوتنا !

ولفت نظرى أمرا لم يكن هذا الأمر مجرد صدفة عابرة، بل كان لحظة تجلت فيها سطوة التكنولوجيا على خصوصيتنا بشكل مرعب. بدأت قصتى بقرار بسيط مثل أى شخص فقد رغبتُ في شراء حذاء جديد ، رفعتُ سماعة الهاتف، اتصلتُ بالمحل، استفسرتُ عن الأسعار، ثم أغلقتُ الخط. لم تمر سوى دقائق معدودة حتى فتحتُ هاتفي لأتصفح الأخبار اليومية، وإذ بي أمام ‘غزوة’ إعلانية غير مسبوقة ، فكل زاوية في المواقع التي زرتها، وكل مساحة إعلانية، كانت تعرض لي أحذية بمختلف الألوان والتصاميم! في تلك اللحظة، شعرتُ وكأن هناك عيناً خفية تلازم خطرات عقلي، وأذناً رقمية لا تنام ترصد حتى أنفاسي ، أحسست أن هاتفى يراقبنى !!.”

في الوقت الذي نتباهى فيه بالوصول إلى قمة الهرم التكنولوجي ، وحيث أصبحت المسافات مجرد نقرة على شاشة زجاجية ، نجد أنفسنا أمام مفارقة غريبة، فكلما زادت وسائل الراحة ، زاد معها شعورنا بالأرتباك، وكلما اتسعت شبكات التواصل، تعمقت فجوات العزلة ، نحن نعيش حقاً في “عصر الوفرة” لكننا نعانى من “فقر المعنى”.

لم تعد التكنولوجيا مجرد أداة لتسهيل الحياة، بل تحولت إلى “بيئة” نعيش فيها ، المشكلة ليست في الهاتف المحمول بحد ذاته ، بل في تلك “الخوارزميات” التي صُممت لتستنزف أثمن ما نملك ” انتباهنا”, لقد أصبح الإنسان المعاصر يعاني من تشتت مزمن، حيث يُقاس يومه بعدد الإشعارات لا بحجم الإنجاز الحقيقي، مما خلق جيلاً يلهث خلف “التريند الزائف” ويغفل عن جوهر الواقع.

تحت شعارات “التقدم” البرّاقة و”الرفاهية” الزائفة، يجر العصر الحديث البشرية إلى نوع جديد من العبودية ،عبودية لا تحتاج إلى أغلال حديدية ، بل إلى شاشات زجاجية واتصال بالإنترنت. لقد تحول الإنسان من “مالك متحكم ” إلى “ترس” في آلة استهلاكية ضخمة، تلتهم روحه قبل وقته.

لقد سُلبت منا أعظم ميزة إنسانية وهى القدرة على التأمل. نحن نعيش في عصر “الضجيج المستمر”، حيث تفرض علينا الخوارزميات ما نحب، وما نكره، وما نشتري، وحتى كيف نشعر. لقد تحول العقل البشري إلى وعاء فارغ يُحشى بنفايات المعلومات السطحية ، مما أدى إلى “ضمور فكري” جعل من قراءة كتاب أو خوض نقاش عميق عبئاً لا يُحتمل. نحن لا نستخدم التكنولوجيا، بل هي التي تستخدمنا كمادة خام للإعلانات .

تحولت الحياة الاجتماعية إلى مسرحية سمجة. الجميع يمثل دور “السعيد، الناجح، والجميل” خلف فلاتر التجميل، بينما تنخر الوحدة والاكتئاب في العظام خلف الكواليس. لقد استبدلنا الصداقة الحقيقية بـ “المتابعة”، والتعاطف بـ “الإعجاب”، حتى أصبح تقييم المرء لذاته مرهوناً بعدد التفاعلات الرقمية. إنها “بروباغندا” النرجسية التي جعلت منا مسوخاً تبحث عن التصفيق في عالم افتراضي بارد.

من أكبر معضلات عصرنا هي “الحياة المثالية المزيفة ” التي تُعرضها منصات التواصل الاجتماعي . يجد الفرد نفسه في حالة مقارنة دائمة بين “كواليس” حياته الصعبة وبين “أجمل لحظات” الآخرين المنقحة بالفلاتر . هذا الضغط الخفي أدى إلى تصاعد مخيف في معدلات القلق والاكتئاب وعدم الثقة بالنفس ، وما بات يُعرف بـ “الاحتراق النفسي” فالجميع يركض، لكن لا أحد يعرف تماماً إلى أين!

رغم الضوضاء التي تملأ المدن ومنصات النقاش، هناك صمت مخيف يسكن البيوت. العصر الحديث قدم لنا “الاتصال” وزاد بيننا ” الانفصال” . أصبح من المعتاد رؤية عائلة تجلس على طاولة واحدة، لكن كل فرد منهم يرحل في عالمه الافتراضي الخاص. لقد فقدنا فن الإنصات، وحلّت الرسائل النصية الجافة محل نظرات الأعين ودفء الكلمات.

وبين كتل الخرسانة وأبراج الصلب، انقطع خيط الوصل بين الإنسان والأرض . لم تعد مشكلة البيئة مجرد “احتباس حراري وتغير المناخ”، بل هي “اغتراب إنساني ” إن ابتعادنا عن الطبيعة هو أحد الأسباب الجوهرية للتوتر الذي نعيشه؛ فنحن كائنات حية تحتاج إلى ضوء الشمس والتراب، لا إلى إضاءة المصابيح الموفرة وشاشات “الليد” فقط.

والحل لا يكمن في تحطيم الآلات أو العيش في كهوف، بل في “الوعي” نحن بحاجة إلى التركيز على النعم الملموسة بدلاً من المظاهر الافتراضية، بحاجة إلى العودة للزيارات العائلية والحوارات المباشرة.

وختاماً، إذا لم نسيطر على أدواتنا، فستحولنا هذه الأدوات إلى مجرد أرقام في معادلة رقمية لا تنتهي. لنستعد إنسانيتنا قبل أن تغرق تماماً في بحر “الرقمية” ونعيش بلا هوية وتنقرض الإنسانية .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى