شريف الريس يكتب: تحديات “تيك توك” على البشر

شهدت السنوات القليلة الماضية صعودًا مذهلاً لتطبيق “تيك توك” ليصبح قوة لا يستهان بها في المشهد الرقمي العالمي. فبواجهته الجذابة، ومحتواه المتجدد باستمرار، وخوارزمياته الذكية التي تستحوذ على الانتباه، تحول تيك توك من مجرد تطبيق لمشاركة الفيديوهات القصيرة إلى ظاهرة اجتماعية وثقافية عميقة التأثير، خاصة بين الأجيال الشابة. لكن خلف هذه الواجهة اللامعة من الإبداع والترفيه، يكمن عالم من “التحديات” التي، وإن بدت في ظاهرها بريئة ومسلية، فإنها تخفي في طياتها مخاطر جمة قد تهدد سلامة وصحة، وحتى حياة، البشر.

تعتمد شعبية تيك توك بشكل كبير على مفهوم “التحديات” (Challenges)، حيث يقوم المستخدمون بتقليد أفعال معينة، أو أداء حركات رقص، أو تنفيذ مقالب، أو حتى تجربة وصفات غريبة، ثم يشاركون فيديوهاتهم مع متابعيهم. سرعان ما تنتشر هذه التحديات كالنار في الهشيم، دافعة الملايين للمشاركة سعيًا وراء الشهرة الافتراضية، أو الإعجابات، أو مجرد الشعور بالانتماء إلى مجتمع الإنترنت المتنامي. فمن “تحدي دلو الثلج” الخيري الذي انتشر لزيادة الوعي بمرض التصلب الجانبي الضموري (ALS)، إلى تحديات الرقص الفيروسي، بدت هذه الظاهرة في البداية وكأنها تعبير إيجابي عن الإبداع والتفاعل.

لكن الوجه الآخر لهذه العملة يحمل علامات استفهام كبيرة ومخاوف حقيقية. ففي خضم السعي المحموم نحو الانتشار، بدأت بعض التحديات تأخذ منحى خطيرًا، تدفع بالمشاركين إلى ارتكاب أفعال متهورة أو ضارة. لعل أبرز المخاطر المرتبطة بتحديات تيك توك تكمن في المخاطر الجسدية المباشرة. فقد شهدنا، للأسف، العديد من الحوادث المأساوية التي نجمت عن تحديات خطيرة. “تحدي تكميم الأنف” (Blackout Challenge)، على سبيل المثال، والذي يشجع المشاركين على حبس أنفاسهم حتى الإغماء، أدى إلى وفيات وإصابات بالغة في الدماغ. كما أن “تحدي كسر الجمجمة” (Skull Breaker Challenge) الذي يتضمن دفع شخص من الخلف ليسقط على رأسه، أدى إلى كسور وإصابات خطيرة. هذه الحوادث ليست مجرد استثناءات فردية، بل هي مؤشرات على تفشي ثقافة المخاطرة غير المحسوبة في سبيل المحتوى.

بالإضافة إلى الأضرار الجسدية، تبرز المخاطر النفسية والعقلية كتحدٍ آخر خطير. فالسعي المستمر للحصول على “الإعجابات” و”المشاركات” يخلق ضغطًا هائلاً على المستخدمين، خاصة المراهقين والأطفال، لدفعهم إلى تجاوز حدودهم. إن عدم الحصول على التقدير المتوقع قد يؤدي إلى الإحباط، القلق، الاكتئاب، وتدني احترام الذات. كما أن مشاهدة الآخرين وهم يؤدون تحديات جريئة قد يغرس شعورًا بعدم الكفاءة أو عدم الانتماء لمن لا يشاركون. علاوة على ذلك، فإن المحتوى المتطرف أو الضار الذي قد يظهر ضمن التحديات قد يعرض الشباب لأفكار غير ملائمة، أو يروج للسلوكيات السلبية، أو حتى يشجع على العنف أو إيذاء النفس، مما يؤثر سلبًا على نموهم النفسي والأخلاقي.

لا يمكن إغفال الآثار الاجتماعية والسلوكية لهذه التحديات. فبعضها قد يؤدي إلى سلوكيات تخريبية أو غير قانونية، مثل “تحدي السرقة” (Devious Licks Challenge) الذي شجع الطلاب على سرقة أو تخريب ممتلكات المدارس. مثل هذه التحديات لا تهدد الأفراد فحسب، بل تؤثر سلبًا على النسيج الاجتماعي، وتزرع قيمًا سلبية مثل عدم احترام الممتلكات العامة والقوانين. كما أن التركيز المفرط على الشاشات والمشاركة في هذه التحديات قد يؤثر على التفاعل الاجتماعي الواقعي، مما يؤدي إلى العزلة وانعدام المهارات الاجتماعية الضرورية في الحياة اليومية.

تطال المخاطر أيضًا جانب الخصوصية والأمان الرقمي. ففي سعيهم لالتقاط الفيديو المثالي للتحدي، قد يقوم المستخدمون بمشاركة معلومات شخصية غير مقصودة، أو يعرضون أنفسهم لخطر الاستغلال من قبل المتصيدين أو المعتدين الإلكترونيين. الأطفال والمراهقون، على وجه الخصوص، قد لا يدركون تمامًا تبعات مشاركة بياناتهم أو فيديوهاتهم في الفضاء العام، مما يجعلهم فريسة سهلة للمخاطر السيبرانية.

لمواجهة هذه المخاطر، تقع المسؤولية على عاتق عدة جهات. أولاً، على منصة تيك توك نفسها تعزيز آليات المراقبة والتصفية، واتخاذ إجراءات حازمة ضد المحتوى الضار، وفرض قيود عمرية أكثر صرامة، وتثقيف المستخدمين حول المخاطر المحتملة. ثانيًا، على الآباء والأوصياء دور محوري في مراقبة استخدام أبنائهم للتطبيق، وإجراء حوارات مفتوحة معهم حول المحتوى الذي يشاهدونه ويشاركون فيه، وتعزيز الوعي بالمخاطر الرقمية. يجب أن يكونوا قدوة حسنة في استخدام التكنولوجيا وتحديد الأوقات المخصصة لها. ثالثًا، على المؤسسات التعليمية دمج دروس حول السلامة الرقمية والتفكير النقدي في المناهج الدراسية لتمكين الشباب من التعامل بمسؤولية مع المنصات الرقمية. أخيرًا، على المستخدمين أنفسهم، خاصة الشباب، أن يتحلوا بالوعي والمسؤولية، وأن يفكروا جيدًا قبل المشاركة في أي تحدٍ، وأن يطرحوا دائمًا السؤال: “هل يستحق هذا التحدي المخاطرة بسلامتي أو صحتي أو سمعتي؟”

في الختام، يظل تيك توك أداة قوية للإبداع والتواصل، لكن استخدامها يجب أن يتم بحذر ومسؤولية. إن الوعي بالمخاطر المحتملة، والعمل المشترك بين المنصات، والأسر، والمؤسسات التعليمية، والمستخدمين أنفسهم، هو السبيل الوحيد لضمان أن تبقى هذه المساحات الرقمية أماكن آمنة ومفيدة، بدلًا من أن تتحول إلى مصائد افتراضية تهدد واقعنا ومستقبل أجيالنا. إنها معركة مستمرة بين الإثارة الافتراضية والواقع الحقيقي الذي يتطلب الحماية والوعي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى