معركة البرد والرصاص.. هل يحسم الشتاء حرب أوكرانيا؟
كتب/ سالم الشمري
على مدار أكثر من عشرة أشهر من الحرب، أثبتت أوكرانيا قدرتها على الصمود في مواجهة الآلة العسكرية الروسية المتفوقة، بل إنها نجحت بفضل الدعم الغربي في قلب مسار المعارك لصالحها في أحيان كثيرة، بيد أن كييف على وشك مواجهة التحدي الأكبر حين يغزو الشتاء أوروبا وتبدأ آثار القصف الروسي للبنية التحتية وشبكات الكهرباء الأوكرانية في الظهور. ساعتها سوف يتعين على الأوكرانيين أن يواجهوا البرد والرصاص وربما الجوع معا، فهل يحسم البرد المعركة التي فشلت الصواريخ والأسلحة في حسمها؟
نص الترجمة
منذ منتصف أكتوبر/تشرين الأول وروسيا تستهدف البنية التحتية المدنية في شتى أنحاء أوكرانيا، ما أدى إلى القضاء على القطاعات الحيوية للاقتصاد الأوكراني. من جهته، فإن الجنرال “سيرجي سوروفيكين”، الذي تولى زمام القوات الروسية في أوكرانيا حديثا ولم يعرف الرحمة حتى إن زملاءه ينعتونه بـ”جنرال هرمجدون”، لم يُبدِ أي استعداد للعدول عن قسوته. وقد هاجمت روسيا 40% من شبكات الكهرباء الأوكرانية بعد أن استخدمت مزيجا من القذائف الموجهة والطائرات المُسيَّرة الإيرانية، إذ قصفت منشآت الطاقة بما في ذلك السدود الكهرومائية، وتركت ما يزيد على مليون أوكراني بلا كهرباء، في حين يعيش 80% من السكان في كييف بلا ماء، وفقا لرئيس بلدية المدينة. ومن ثمَّ يتوقَّع الاقتصاديون أن تصل نسبة انكماش الاقتصاد الأوكراني إلى 35% لهذا العام (2022).
بالنسبة للدول الغربية، فإن الموجة الحالية من الهجمات الروسية يجب أن تستدعي أحداثا مماثلة من تاريخها القريب. فقد حاصر الزعيم السوفيتي “جوزيف ستالين” الجزء الغربي من برلين عام 1948، إذ سيطرت الولايات المتحدة وحلفاؤها على غرب العاصمة الألمانية في ذلك الوقت، وكان ذلك جزءا من خطة ستالين لإحكام السيطرة على ألمانيا كلها في نهاية المطاف (وإقصاء الوجود الغربي)*. وقطع السوفييت آنذاك جميع سبل الوصول إلى المدينة عبر السكك الحديدية والقنوات المائية والطرق، مما خلق معاناة هائلة في برلين الغربية، ولكن سرعان ما استجابت الولايات المتحدة وبريطانيا لحصار برلين بما عُرف بـ”جسر برلين الجوي” (Berlin Airlift)، الذي نقل جوا الغذاء والفحم والضروريات الأخرى إلى المدينة المحاصرة. وبذلك، نجح البلدان في إحباط مخطط السوفييت القاسي، وبحلول عام 1949، رفع ستالين الحصار، وتأسست جمهورية ألمانيا الاتحادية في الشهر نفسه. وبفضل موقفها الراسخ حينئذ، حققت الدول الغربية نصرا مبكرا في الحرب الباردة.
لا تقل الأموال التي يرسلها الغرب إلى أوكرانيا أهمية عن أنظمة الأسلحة التي تُرسل إليها. فلولا ضخ 8.5 مليارات دولار من واشنطن لأفلست أوكرانيا بين عشية وضحاها. ويعود الفضل لتلك المعونة المالية في استمرار عمل النظام المصرفي والسكك الحديدية والمستشفيات بأوكرانيا، فبعد ثمانية أشهر من الحرب، لا تزال كييف تدفع رواتب الدولة والمعاشات في مواعيدها، لكنها تواجه عجزا في الميزانية يتراوح بين 5-6 مليارات دولار شهريا، مما اضطر وزارة المالية لبذل كل ما بوسعها لضمان عدم تعرُّض خدمات الدولة للتهديد.
من جهته، التزم الاتحاد الأوروبي بإرسال قروض بقيمة 9 مليارات دولار في مايو/أيار 2022، لكنه يتلكأ في إرسال الدفعة الأخيرة وقيمتها 3 مليارات دولار، التي من المرجح أن تصل العام المقبل. إن التعهدات العلنية من الدول الغربية من أجل أوكرانيا موجودة، لكن تعوزها قوة الإرادة فيما يبدو، إذ إن حجب أو إبطاء تحويل الأموال يزيد مخاطر اشتعال التضخُّم المفرط في أوكرانيا. فقد دفع نقص الأموال في البنك المركزي إلى اللجوء لزيادة المعروض النقدي من خلال طرح المليارات من السندات الحكومية، ومن ثمَّ تناقصت قيمة عملة البلاد “الهريفنا”، كما ارتفع معدل التضخم في سبتمبر/أيلول إلى ما يقارب 25%، وهو تضخم يزيد من صعوبة بقاء الدولة الأوكرانية واقفة على قدميها، ناهيك بمواصلة الحرب بنجاح.
يبحث الاتحاد الأوروبي تحويل 18 مليار دولار أخرى أثناء عام 2023، ولكن تنفيذ ذلك من عدمه غير واضح، فثمة فارق جلي بين ما وعدت به ألمانيا علنا وما قدمته حتى الآن. ومن شأن الدعم الذي تعهد به الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى ضخ أموال جديدة محتملة تبلغ قيمتها 10 مليارات دولار خلال السنتين القادمتين من صندوق النقد الدولي، أن يساعد في سد فجوة التمويل الفورية في كييف، التي تبلغ قيمتها عدة مليارات في الشهر الواحد. ومن جهته، واظب الكونغرس الأميركي والرئيس “جو بايدن” منذ بدء الصراع على إرسال حِزَم دفاعية ومالية حيوية بانتظام، وإن كان الحفاظ على هذه الإعانات بعد الانتخابات الأميركية النصفية أصعب من ذي قبل (في ظل سيطرة الجمهوريين الأكثر تحفُّظا على دعم أوكرانيا على مجلس النواب)*.
مع دخول أوكرانيا فصل الشتاء، ورزوح البلاد في الظلام من غير كهرباء، أخذ الدعم المقدم من الولايات المتحدة بالتراجع فعلا. فقد صوَّت جميع الجمهوريين تقريبا في مجلس النواب في سبتمبر/أيلول ضد مشروع قانون تمويل يتضمن إرسال 12 مليار دولار إلى أوكرانيا. وحذَّر “كيفن مكارثي”، زعيم الجمهوريين في المجلس، بأنه رفض تقديم “شيك على بياض” لأوكرانيا. وفي تجمع انتخابي بولاية “أيوا”، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أعلنت نائبة جمهورية قائلة: “لن يذهب بنس آخر إلى أوكرانيا، فالأولوية لبلادنا”. وفي واقع الأمر، يشير استطلاع أجرته “وول ستريت جورنال” إلى أن غالبية الأميركيين لا يزالون يدعمون تقديم مساعدات إلى أوكرانيا، لكن عدد الجمهوريين الذين يعتقدون بأن أميركا تمنح دعما مفرطا ارتفع ليصل إلى نسبة 48%.
أثار بعض الجمهوريين من أمثال “فيكتوريا سبارتز”، عضوة الكونغرس بولاية إنديانا وهي أوكرانية المولد، مسألة الفساد في كييف. فلا ريب في أن الحكومة الأوكرانية لديها تاريخ طويل من اختلاس المال العام، بيد أنها عملت بجد أثناء الحرب على إصلاح هذا الأمر. على سبيل المثال، فتحت وزارة المالية الأوكرانية أذرعها لشركة الاستشارات المالية “ديلويت” (Deloitte). وقد دُمِج مدققو حسابات من الشركة في الوزارة الأوكرانية منذ أشهر، وهم يشرفون على التحويلات المالية، ويتأكدون من إرسالها إلى وجهتها دون أن تتعرَّض إلى الاختلاس.
شتاء 2023.. البرد أقسى من الرصاص أحيانا
ليس المال هو المشكلة الوحيدة التي تواجه كييف، فالهجمات الروسية على بِنَى الطاقة التحتية الأوكرانية أفضت إلى انقطاع الكهرباء في معظم أرجاء البلاد. وقد طلبت الحكومة من مواطنيها طواعية أن يفصلوا الكهرباء، وطبَّقت سلسلة من إجراءات قطع التيار الكهربائي، مما خفض الطلب على محطات الطاقة كي يُتاح إصلاحها بصورة أفضل. وحين صبَّت روسيا وابلا من الضربات الصاروخية يوم 10 أكتوبر/تشرين الأول ثأرا من قصف مضيق “كيرتش” الذي يربط شبه جزيرة القرم بروسيا، هَروَل سكان كييف إلى محطات الوقود لملء خزاناتهم.
“لا يجب على بوتين أن يستعمل أسلحة نووية ليُحدِث كارثة”، هكذا قالت “فيكتوريا فويتسيتسكا”، الرئيسة السابقة للجنة المعنية بالطاقة في البرلمان الأوكراني، أثناء لقاء أُجري مع “فورين أفيرز” في أكتوبر/تشرين الأول بالعاصمة واشنطن، فمن المُحال -على حد قولها- حماية أنظمة التدفئة في أوكرانيا. وتحُض فويتسيتسكا الغرب على إرسال أنظمة دفاع جوية إلى كييف في أقرب فرصة ممكنة، فالخراب الذي تسبَّبت فيه روسيا منذ منتصف أكتوبر جسيم، ونصف سكان “تشِرنيهيف” (مدينة في شمال أوكرانيا) يفتقرون إلى الماء لأنه يتطلب وجود كهرباء تضخه وتوصله إلى منازلهم. وقالت “أوكسانا نِتشيبورينكو”، إحدى قيادات المجتمع المدني الأوكراني، إن الأوكرانيين لا يحسون بالذعر، لكن صديقاتها من الأمهات يبحثن عن أماكن آمنة في أوكرانيا للعيش أثناء الشتاء من أجل أطفالهن.