فيلم “تيل”.. قصة حقيقية لطفل قُتل مرتين وأمومة لا تقهر
كتبت/ ليا مروان
تبقى سنوات التحول في تاريخ الأمم هي الأكثر ثراء بالدراما والصراع والدموع والدماء، لكن ما يدعو للتفاؤل أن تلك الدموع والدماء هي أثمان بسيطة للحرية والمساواة والعدالة المنشودة.
وتكاد تكون الملحمة الكبرى في تاريخ البشرية هي تلك التي تحول خلالها المواطنون الأفارقة، الذين كانوا أسيادا في بلادهم، إلى عبيد في الأرض الأميركية، وتم استعبادهم لما يقرب من قرنين من الزمان بشتى أنواع المهانة والذل والوحشية، ومن ثم أطلقوا شرارة التحرر.
لم تقف ملحمة التحرر الأفريقي في الولايات المتحدة عند حدود معينة، بل استمرت حتى الآن، لكن البدايات كانت من القسوة بحيث لم يستطع السينمائيون تجاهلها، فقدمت هوليود أعمالا كثيرة، استعرضت خلالها تفاصيل مرعبة لحياة هؤلاء المستعبدين الذين كانت أعمارهم مجرد سنوات من التعذيب تنتهي غالبا بالموت تعذيبا أو قتلا أو الاثنين معا.
ولم يكن صدور مرسوم تحرير العبيد في الولايات المتحدة من قبل الرئيس أبراهام لنكولن هو نهاية التمييز العنصري ضد السود الذين أسهموا في بناء الإمبراطورية الأميركية، بل بداية لحروب فردية وجماعية للانتقاص من تلك الحرية أو نيلها.
واعتمدت غالبية الأفلام التي وثقت لتلك الحياة ولمحاولات الخروج من نفق العبودية المظلم على قصص مستمدة من وقائع، بلغت فيها الدراما حدودا قاسية قد لا يجرؤ الخيال على الوصول إليها.
ويعد فيلم “تيل” (Till) للمخرجة تشينوني تشوكو، والذي يعرض حاليا في الولايات المتحدة نموذجا لهذه الأفلام، وتدور أحداثه حول الصبي الذي لم يكن قد بلغ الـ14 من عمره حين تم تعذيبه لدرجة أن أيا من أجزاء جسمه لم يكن ممكنا التعرف عليها، ثم أطلق الرصاص على رأسه وعلق في ثقل يزن 75 كيلوغراما وألقي في قاع أحد الأنهار.
كان الصبي طفلا وحيدا لأم قُتل زوجها في حرب من أجل الولايات المتحدة عام 1945 بينما قتل ابنه عام 1955.
أثبتت الأم “مامي تيل موبلي” أن الأمومة قوة لا تقهر، واستطاعت أن تجعل من قضية قتل ابنها علامة مضيئة في تاريخ النضال الأسود لنيل الحقوق المدنية والمساواة، وجعلت من تعذيبه لطمة على وجه الضمير الأبيض الذي يشعر بتفوقه ويفرض على الآخرين الشعور به.
حكاية فيلم
حدثت القصة الحقيقية لفيلم “تيل” (Till) عام 1955 بين مدينة شيكاغو (شمال الولايات المتحدة) وقرية موني بولاية مسيسيبي بالجنوب، وهناك فارق اجتماعي هائل بين المنطقتين، فبينما نال السود جزءا من حريتهم في الشمال، فإن الجنوب احتفظ بقيم العبودية، وتحول إلى العنف في مواجهة محاولات السود التحرر من قيمها.
كان الطفل تيل يعيش مع والدته في مدينة تسمح للسود بالدراسة والسير في الشارع جنبا إلى جنب مع أبناء العرق الأبيض، ولكن الوضع في الجنوب كان معكوسا تماما، حيث كان مجرد اللمس العفوي غير المقصود لشخص أبيض في الشارع أو التجرؤ على الحديث إليه دون إذن كفيلا بعقاب يصل للموت.
ذهب الطفل من شيكاغو إلى قرية موني لزيارة أقربائه، وكانت الأم التي تعود أصولها إلى القرية نفسها تشعر بقلق عميق عبرت عنه بشتى الطرق، حتى أنها قالت لابنها “كن صغيرا هناك، وإذا شعرت أن شخصا أبيض غضب منك، فاركع فورا واعتذر”.
قتل “تيل” لأنه لم يستطع أن يستوعب كل هذا الكم من الظلم الاجتماعي في مقابل مساحة الحرية التي تمتع بها في مدينة ميلاده.
وفي المحكمة، لم تكن القضية رغم وضوح تفاصيلها للقضاء والعامة بسيطة، فقد حصل القاتلان الأبيضان على براءة، بينما انتصرت الأم لقضية السود عبر الصحافة، وعبر مبادرتها بالذهاب لدفن ابنها مع نعش مفتوح تظهر من خلاله جثة الابن المقتول وقد تم تشويه كل جزء فيها.
سمحت الأم للمصورين الصحفيين بالتصوير والنشر، فكانت كل صورة نشرت في صحيفة بمثابة رصاصة انطلقت في مواجهة الضمير الأميركي الميت.
واستغرق كيث بيشامب الكاتب وصانع الأفلام والسيناريست المشارك في كتابة فيلم “تيل” نحو 27 عاما من البحث في ملابسات مقتل الطفل تيل ليصنع فيلمه الوثائقي عن القصة وهو “القصة غير المروية لإيميت لويس تيل” 2005 (The Untold Story of Emmett Louis Till)، وقد نجح في دفع وزارة العدل الأميركية لإعادة فتح القضية عام 2004 عبر شهادة جديدة تقدم بها أثناء صناعة فيلمه الوثائقي.
الظلم
بعد مرور نحو 30 دقيقة من بدء عرض الفيلم، يجد المشاهد أنه أمام سيمفونية بصرية جنائزية مفعمة بالطاقة والصمود في مواجهة البؤس الذي يتجاوز حدود التاريخ الأميركي إلى الإنساني العام، إذ يبقى الظلم أخطبوطا يملك ملايين الأرجل والأيدي، وله أشكال لا تعد ولا تحصى، ورغم ذلك يمكن للإنسان أن يعرفه بسهولة نسبية حين يصادفه، ذلك أن خراب النفوس الناجم عنه لا يمكن أن تخطئه عين.
رغم البداية المبهجة للعمل مع صبي مبتسم ومتفائل وأُم حنون في رحلة، فإن اختطاف ومقتل “تيل” كان تحولا حادًّا، توقعته الموسيقى التصويرية المخيفة والتحذيرية قبل حدوثه، ولعبت دورا رائعا في خلق التوتر وسط الهدوء والسكينة احتراما لجلال الموت، وقد جاء شريط الصوت بشكل عام مميزا خاصة في تفاصيل تعذيب “تيل”، حيث اكتفى بأصوات غامضة لا تؤثر على المشاهد.
استطاعت المخرجة تشينوني تشوكو أن تكشف تلك الطبيعة المتعاطفة الدافئة بين أفراد وعائلات مجتمع السود في الولايات المتحدة مع انتصاف القرن الماضي، كما كشفت الفارق بين تلك المساحة من التسامح في الشمال مقابل كابوس القيم الاستعبادي في الجنوب.
قدمت تشوكو الأم مامي (الممثلة دانييل دي دويلير) باعتبارها محور الأحداث، وعبرت عن قوة الأمومة التي لا تقهر بالصورة. كانت (مامي) الأم الثكلى مرفوعة الهامة تذرف الدموع بلا انقطاع لكن الكاميرا دائما موجهة من الأسفل حتى في اللقطة المكبرة جدا (Extreme Close Up) لعينيها الممتلئتين بالدموع كانت زاوية التصوير من أسفل، فجاءت الحزن ممزوجا بالكبرياء ليصنعا معا هالة من الجلال حول هذه القوة الحزينة.
لم يكن الأسود -ولو كان ضحية- يجرؤ على الاعتراض على أعضاء هيئة المحلفين في المحكمة، وكانوا جميعا من العرق الأبيض، وأبدعت تشوكو في تصوير ردود فعل الأم الثكلى على سلوك “الشريف” أو رئيس البوليس في القرية، وهو الذي زعم أن الابن ليس ميتا، بينما يلصق آخرون بابنها القتيل صفات سيئة وتلفق له تهم هو بريء منها، إلى أن التفتت لأبيها قائلة: أريد أن أعود إلى شيكاغو، فتساءل: ألن تنتظري الحكم؟ لترد قائلة: أعرفه تماما، وكما توقعت، جاء الحكم بالبراءة للقتلة الذين شاهدهم الكثيرون.
كانت السيارة تغادر القرية التي عقدت فيها المحاكمة وفيها الأم (مامي)، بينما يقف على جانبي الطريق أبناء مجتمع السود للتحية والمواساة، وإظهار التضامن.
فيلم بلا نهاية
جاء حرص المخرج على عدم إظهار أي نوع من العنف لافتا للنظر، إذ قدم التعذيب عبر صوت طفل يتألم، ولم يكشف سوى عن صوت طلقة رصاص، رغم بشاعة شكل الجثة من القدمين إلى الوجه، لكنه أثبت في النهاية سيطرة تامة على المحتوى الذي يقدمه رغم كونه قصة محورها الأساس الدم والتعذيب.
أنهى المخرج فيلمه بشكل صادم، إذ يحصل القتلة على البراءة، فيما تقرر الأم الانطلاق لفضح نظام العدالة الأميركي القائم على معايير مزدوجة.
ما الذي يمكن أن يتوقعه المشاهد في قضية يهرب خلالها الشهود من الوقوف أمام القاضي للإدلاء بشهاداتهم حول مجرمين قتلوا صبيا، بينما يعلمون أنهم في الليلة التالية للشهادة سوف تكون جثثهم غارقة في قاع النهر؟
قدم صناع العمل النهاية كما جرت في الواقع، لكن حقيقة الأمر أن قضية قتل “تيل” لم تنته حتى اللحظة، إذا يناضل المظلومون في الأرض كلها ضد من ظلموهم في صراع لن ينتهي حتى تفنى الأرض ومن عليها.
ولعل أبرز ما في الفيلم هي تلك المساحة الرسالية التي لخصتها الأم (مامي) في قولها “حين تعرض السود في الجنوب للأذى، لم ألتفت وقلت أنا أعيش في شيكاغو بالشمال ولا علاقة لي بالأمر، لكني في الحقيقة لو كنت تضامنت مع السود في الجنوب لما وصل الظلم إلى بيتي وخطف ابنين وقتل”.