في “صالون الزمبيلي”.. د. عمرو شريف: تبديل “النماذج المعرفية” من سمات المفكرين

كتب/ عصام جمعة

قال د. عمرو شريف، المفكر وأستاذ الجراحة العامة بطب عين شمس، إن “النموذج المعرفي” هو أداة للإدراك والتحليل؛ لأن الإنسان لا يدرك شيئًا مما حوله بشكل مباشر، وإنما ينظر للظاهرة متأثرًا بمعارفه السابقة عليها.

وذكر شريف، في الندوة الثالثة عشرة لـ”صالون د. عبد الحميد إبراهيم الزمبيلي”، أن د. عبد الوهاب المسيري اهتم بمعالجة “النموذج المعرفي” من حيث بيان ماهيته وخصائصه، وفرّق بين التفكير الموضوعاتي والتفكير الموضوعي، مبينًا أن الأول يهتم بالوقائع، ويبحث عن الأفكار حال كونها متناثرة، ويقف عند حدود الحقائق ويتبع الأسلوب المعلوماتي والفكر المضموني؛ بينما الفكر الموضوعي فكر واقعي، يبحث عن الفكر، يغوص وراء الحقائق والظواهر، يتبع الأسلوب التحليلي والفكر البنيوي.

وبيّن عمرو شريف أن “النماذج المعرفية” تتشكل تدريجيًا ودون قصد، ومصطلح “بارادايم شفت” هو لتوماس كون، ويعني تبديل النماذج، وأن تغيير أو تبديل النماذج المعرفية وإعادة النظر فيها باستمرار هو سمة مهمة من سمات المفكرين.
وكمثال لما قام به من تعديل لنماذجه المعرفية، أشار عمرو شريف إلى أن علماء التفسير في القديم كانوا يستدلون بالعجز، على قدرة الله تعالى؛ أي بما أننا نعجز عن إدراك تفسير الظواهر وكيف نشأت، فإن هذا دليل على القدرة الربوبية.

وأضاف: لكني انتهيت إلى أن الإدراك بالمعرفة أشد من الإدراك بالجهل؛ أي انتقلت من الاستشهاد بالجهل إلى الاستشهاد بالعلم والمعرفة. وهذا حدث بعد أن كشف لنا العلم الحديث حقائق كثيرة تبين عظمة قدرة الله تعالى، منها أن الشفرة الوراثية DNA للإنسان بها من المعلومات ما يملأ 75 ألف صفحة جرائد! ولهذا أمرنا الله تعالى بالنظر والتفكر في آيات كثيرة؛ فقال: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}، {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}، {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}.

وأوضح “شريف” أن القرآن في هذه الآية الأخيرة جعل “آيات الأنفس والآفاق” هي الشاهدة على صدق آيات القرآن الكريم، وهذا عكس ما يظن الكثيرون. فالكتاب المنشور (الكون) شاهد على الكتاب المسطور (القرآن). وأنه إذا كان وحي الكتاب المسطور قد انقطع، فإن وحي الكتاب المنشور لا ينقطع.
وذكر “شريف” أنه في تبديل النماذج المعرفية، انتقل أيضًا من القول بعجز الصدفة، إلى أنْ لا وجود للصدفة على الإطلاق؛ واستفاد في ذلك من ثلاث نظريات علمية مهمة، هي “نظرية الكوانتم” والتي تفسر سلوك الجزيئات تحت الذرية، و”نظرية الفوضى”، و”نظرية المعلوماتية”.

وأضاف: الصدفة تعجز عن إنشاء جزيء بروتين واحد، فكيف يمكن أن يكون خلق الإنسان أو الكون صدفة؟! و”الصدفة” ليست آلية نضعها في مقابل “الفعل الإلهي” حتى نتساءل: هل هذا الشيء خُلق صدفة أم خلقه الله؟ وإنما هي موقفنا من إدراك الحدث، والعجز عن التنبؤ. وفي عالم الجسيمات لا مكان للصدفة، وإنما عدة احتمالات تحتاج لمرجِّح، أي للقدرة والإرادة الإلهية. وأما في عالم الأجسام الكبيرة فهناك عدة عوامل كثيرة تتحكم في الظاهرة، ليس من بينها القول بالصدفة. وما نعتبره فوضويًا في الأسباب، إنما يعبر عن عدم إدراكنا بكل عوامل الظاهرة.

وتابع: ليس صحيحًا أن معظم العلماء ملاحدة؛ وإنما كل من يتعمق في خلق الكون والإنسان ينتهي للإيمان. وقد قال نيوتن، وكان مؤمنًا: “لقد أراد الله أن يطلعنا على كيف يدير الكون”. ولما سُئل عن احتمال تغير قوانين الطبيعة، قال: “قوانين الطبيعة هي مشيئة الله، ومشيئة الله لا تتغير، فلا تتغير القوانين”.
وأشار عمرو شريف إلى أن نظرية المعلومات، أوضحت أن البِنْية الأساسية للكون أو الوجود ليس كما كان يُعتقد قديمًا، الماء والنار والهواء والتراب، وإنما المعلومات؛ وأن الصدفة لا يمكن أن تنشئ المعلومات أو البنية الأساسية للكون؛ وكلما تعمق الإنسان في العلم والمعرفة تحلَّى بخشية الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}. حتى قال أينشتاين: “من يمارس العلم ولا يستشعر الخشية، فليس بعالم”.

وفي مثال آخر، على تبديل النماذج المعرفية، ذكر عمرو شريف أنه انتقل من الاستدلال بالخوارق، أي المعجزات، إلى الاستدلال بالانضباط والانتظام. مشيرًا إلى أن “المعجزة” كان دورها في تاريخ الإسلام دورًا ضئيلاً، وليس محوريًا، وذلك بخلاف دورها في اليهودية والمسيحية، الذي كان دورًا محوريًا.. حتى إن معجزة الإسراء كانت سببًا في أن يرتد البعض عن الإسلام، وليس أن يدخل فيه مسلمون جدد!
وأوضح أن الإسلام، وهو الدين الخاتم، يقوم على العلم والعقل، لا على الخوارق، ولهذا لا حاجة بعد الإسلام لدين جديد.. وإذا حدث انحراف أو خطأ فهنا يأتي دور المجددين والمصلحين، كما أخبر الحديث الشريف.
وذكر “شريف” أنه انتقل في قضية آدم والخَلق والتطور، من النموذج المعرفي القائم على “التأويل” للآيات، إلى عدم التأويل، ثم إلى التوقف والتفويض والإيمان بالآيات على مراد الله تعالى.
وأضاف: شخصية آدم شخصية غيبية غيبًا مطلقًا، ولا يمكن فَهْم عالم الغيب بمقاييس التعامل مع عالم الشهادة؛ فلكل من عالمي الغيب والشهادة غاياته ومصطلحاته وقوانينه. في عالم الغيب يأتي قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} وفي عالم الشهادة يأتي قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} أي بالماء، أي بالأسباب المباشرة.

وتابع: مبدأ التطور أصبح مبدأ ثابتًا وحقيقة علمية، أما نظرية التطور لدارون فيمكن الاختلاف معها. ومن الخطأ رفض التطور والزعم بأن نظرية التطور سقطت في الغرب، مما يجعل شبابنا حين يدرس ذلك في علم الأحياء يصاب بالتشتت، وقد يندفع البعض لطريق الإلحاد، لأنه تشكك فيما يقال له من تفسير آيات القرآن.

وفي تعقيبه، أثنى د. حسام الزمبيلي، رئيس الصالون، أستاذ طب وجراحة العيون، على محاضرة د. عمرو شريف، موضحًا أن موضوع “النماذج المعرفية” موضوع مهم في العالم كله، وفي جميع المجالات، لاسيما في علوم الإدارة.

وذكر أن تبديل النماذج المعرفية يجعلنا نعيد النظر في طريقة تفكيرنا وإدراكنا للأمور؛ وننظر إليها بطريقة مختلفة؛ مثل النظر لأوضاع المسلمين الحضارية المتدهورة، فقد يراها البعض نتيجة لـ”نظرية المؤامرة”، أو يفسِّرها من خلال “تقصيرنا”، أو من خلال نموذج “اتهام الإسلام نفسه” والزعم أنه المسئول عن تدهورنا. ولهذا علينا أن نهتم بالنماذج المعرفية ونعيد النظر فيها؛ فهذا يساعدنا على حل كثير من المشكلات ونفهم وجهات النظر المتعددة.

بينما قال د. محمد صالحين، الأمين العام للصالون، أستاذ الفكر الإسلامي بكلية دار العلوم، إن محاضرة د. عمرو شريف في غاية الأهمية، وجاءت نموذجًا للتفاعل الجيد المثمر بين الفلسفة والعلم والدين.
وأضاف: يجري الحديث كثيرًا عن تجديد الخطاب الديني، والصواب أن نقول تجديد الخطاب الدعوي، أي تجديد كيفية الدعوة للإسلام؛ لأن “الخطاب الديني” مصطلح غربي.. ومع هذا، فينبغي أيضًا أن نجدد خطاباتنا العلمية، والفلسفية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وهكذا في بقية مجالات الحياة.

وبيّن السنوسي محمد السنوسي، المستشار الإعلامي للصالون، أن “تبديل النماذج المعرفية” له عدة دلالات؛ منها حيوية العلم والعالِم، أو الفكر والمفكر.. والحاجة للحوار، ليس فقط بمعناه الشائع، الحوار بين الناس، وإنما مع الذات؛ وهو ما يمارسه المفكر قبل أن يبدل نموذجه ويخرج علينا بالنتائج.. وأيضًا ضرورة الصدق مع النفس، والشجاعة في إعلان النتائج التي يصل إلى المفكر، وعدم الخضوع لسلطة الرأي السائد، فإن هذا يمنع المفكر من التفكير أولاً، ومن إعلان نتائجه ثانيًا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى