قصة قصيرة.. جنين الشيطان
للكاتب: محمود فكري
بينما كان يجلس وحيدًا في زنزانته حزينًا يراقب جُدران السجن الذي تتساقط منه حبَّات الرمل من سقفٍ متهالكٍ، أخذ يتمحَّص يمينًا ويسارًا ويداه تتسلَّلان بخفة ليتحسَّس بها علامات ورموز مَن كان قبله على جُدران السجن، وكأنه يتحسَّس سنوات الألم والحسرة والندم، إذ به يسأل نفسه: كيف حدث ذلك؟ لم يُصدِّق هول الواقعة، يحرق ابنته بدمٍ بارد، ولكن لا مفر، لم يكن أمامه خيار آخر سوى بتر ذلك الطرف الشيطاني الاصطناعي الذي ظلَّ ينخُر في كامل أعضاء أسرته.. تلك هي نهاية البداية.
ظلَّ يفكر وعيناه لا تجفان من الدموع حتى أتى أحد حراس السجن مناديًا على اسمه:
– كاظم السلحدار.
نهض مُسرعًا نحو باب الزنزانة محدِّثًا إيَّاه من خلف الحاجز الحديدي:
– أفندم؟
ردَّ الحارس قائلًا:
– المأمور في انتظارك.
فتح الحاجز الحديدي مُكبِّلًا يديه من الخلف ممسكًا به بكل عُنف يجرُّه حتى وصل إلى مكتب المأمور.
استأذن الأخير للدخول ثم قام بفك القيود الحديدية بكل عنف من يديه ثم تركه قائلًا:
– تمام يا فندم.. المتهم كاظم.
نظر المأمور إليه نظرةَ دونيةٍ -فهو يرى قاتلًا وليس قاتلًا عاديًّا، ولكنه قتل فلذة كَبِده- ثم وبَّخه قائلًا:
– أنت لا تستحق العيش لحظةً واحدة.
كان تلك الكلمات كفيلةً بقتل كاظم ألف مرة، ثم انهالت الدموع تذرف من عينه وبدأ في الصراخ:
تعجَّب المأمور من أمره:
– تبكي، كيف تبكي الآن؟
ردَّ كاظم قائلًا:
– أنت لا تعرف سوى نصف الحقيقة، لا تعرف الصورة الكاملة.
انتفض المأمور من مجلسه متجهًا نحوه ودار حوله قائلًا:
– عن أي حقيقةٍ تتحدَّث؟ أب يحرق ابنته الوحيدة في سن السابعة من عمرها، كيف ذلك؟!
سكت كاظم عن العويل قائلًا: هل تريد معرفة الحقيقة؟
المأمور: عن أي حقيقة تتحدَّث؟ كل شيء واضح.
كاظم: لا، ليس كل شيء، فهناك أمور يصعب وصفها وشرحها.
إذِنَ له المأمور بالحديث..
كاظم: سوف أسرد لك القصة من البداية.
ثم طلب من المأمور أن يعطيه سيجارةً ويشعلها حتى بدأ ينفث دخان سيجارته وشرع في سرد قصته، أخذ نفَسًا عميقًا قبل أن يلقي على مسامعه أصل الحكاية..
نشأت قصة حُب مولعة بيني وبين جاكلين التي أصبحت زوجتي بعد أن تعرَّفت عليها في إحدى حفلات الزفاف بالكنيسة، تبادلنا النظرات حتى أصبحت أسيرًا لها، كانت ابتسامها لم تغادر شفاهها، حاولت الاقتراب أكثر وأكثر منها حتى أصبحنا قلبًا واحدًا ينبض بروح واحدة، لم يعد هناك مجال للانتظار حتى اتفقنا على الزواج وبالفعل أتممنا زواجنا.
وبعد مرور عام على زواجنا بدأت المشكلات تدبُّ العش الجميل، لم يرزقنا الله بالإنجاب في تلك السنة، وتلك هي البداية حيثُ كانت ظروف عملي تجعلني منشغلًا عنها طوال الوقت، فأنا صاحب سلسلة من شركات التوريدات، ويُشهَد لي بالأمانة والسُّمعة الطيبة.. ولكن دائمًا ما يوجد ما يعكِّر صفو حياتك.. فهي حكمة واختبار من الرب.
كان عدم إنجابنا للأطفال يُثير قلق جاكلين، ذهبنا إلى الكثير من الأطباء وأجرينا الفحوصات الطبية اللازمة داخل وخارج البلاد ولكن دون جدوى، كانت النتيجة دائمًا: لا يوجد ما يعوق الإنجاب، حاولنا مرارًا وتكرارًا خوض عمليات الحقن المجهري، ولكنها باءت بالفشل، وكان رأي الأطباء أنَّه مجرد وقت لا أكثر، مرَّ عامان على آخر فحوصات وما بين الحين والآخر جُنَّ عقلنا.
بدأت جاكلين في البحث على الإنترنت ومخاطبة كبار معاهد الإنجاب بالخارج حتى أتى أمامها إعلان بأحد مستشفيات بريطانية الكُبرى، كان إعلانًا من نوع آخر، اكتشف أحد علماء معالجة العقم والولادة بروفيسور أنطونيو كوهين حقنًا مجهريًّا بجنين مفصَّل الأوصاف من لون الشعر وحتى ظفر الطفل بكل خصائصه، كانت شهوة الأمومة تنخر في عقلها، فهي على أتمِّ الاستعداد بأن تبيع جسدها من أجل طفل جميل تحتضنه وتسمع صراخه وتنهض من نومها مسرعةً من أجله كباقي الأمهات، تلك هي أحلامها، أمَّا أنا فلا أخفي عليكم.. كنت أتمنى إدخال السرور على بيتنا ورجوع السعادة تعمُّ البيت من جديد.
أتيت من عملي بالليل كعادتي.. حتى وجدت زوجتي جاكلين في انتظاري، لم تغادر ابتسامتها شفاهها وكأنَّ جسدها دبَّت فيه الحياة مرة أخرى، لم أرَها منذُ فترة بتلك الابتسامة التي كانت سببًا في حبها .
أتت إلى بكل عطف وحنان بدأت حديثها بالاطمئنان على أحوالي ثم رويدًا رويدًا أدخلتني في تفاصيل الموضوع وشرحت لي الإعلان وتأكدت من مهارة بروفيسور أنطونيو من خلال عملياته السابقة، فجميع الحالات موثَّقة؛ فهي من أكبر معاهد الإنجاب في لندن، وعرضت عليَّ الأمر قائلةً:
– لماذا لم نجرب ذلك ونخوض التجربة؟
في بداية الأمر غضبت وحدث خلاف حاد بيني وبينها فكيف أوافق على إنجاب طفل بوصف وشكل معين، فذلك مخالف لجميع الديانات السماوية، زاد الخلاف أكثر وأكثر، غادرت المنزل كعادة أي امرأة تريد الضغط عليَّ مَن جميع النواحي.
مرَّ شهران على ذلك الخلاف حتى أتاني اتصال من أهلها بمرضها، ذهبت مسرعًا إليها، صارحني الطبيب بأنَّ الحالة النفسية تسوء وتحتاج إلى معاملة نفسية خاصة، احتضنتها قائلًا: لن أترككِ.. لن أخسركِ مرةً ثانية.
عاودتني في فتح الموضوع، ولكن تلك المرة كنت مترددًا في حيرة ما بين القبول والرفض.
وفي اليوم التالي ذهبت إلى الكنيسة لأخذ رأي أحد القساوسة المقرَّبين لي، عرضت عليه الأمر.
رأيت تغيُّر علامات وجهه وهو يبرز معالم الغضب، كان حديثه معي شديد اللهجة حتى قال لي جملة:
– أنت تجني ثمار الشيطان.
لم أفهم تلك الجملة وقتها، خرجت من الكنيسة وأنا أعرف ماذا أفعل، وبرغم معارضة الكنيسة لذلك الأمر كانت الفكرة لم تغادر رأسي، لم أرَ إلا ابتسامة جاكلين وعودتها للحياة مرة أخرى.
عدت إلى الفيلا وقررت خوض التجربة، حدَّدت السفر أنا وهي فقط، كان الأمر طي الكتمان، الكل يعرف أننا في رحلة للتنزُّه، لم يعرف أحد الحقيقة.
ذهبنا إلى ذلك المعهد المشؤوم وتحدَّد موعد لمقابلة ذلك البروفيسور، مجرد دخولي ذلك المعهد اقشعرَّ بدني من الخوف وارتجف قلبي، لم أسترِح للوهلة الأولى.
قاطع المأمور حديث كاظم أثناء سرد قصته قائلًا:
– بمناسبة الفحوصات.. لقد تم التحفُّظ على جميع الأوراق الطبية التي تخصُّ فحصكم، والنيابة أرسلت لأخذ رأي الأطباء.
تغيَّر وجه كاظم من حديث المأمور وابتلع ريقه بصعوبة، ثم أكمل المأمور حديثه ملاحظًا تغيُّر وجه كاظم وقال:
– كل ذلك لم يبرر حرقك لابنتك، وما السبب وراء ذلك؟
انتفض كاظم من مجلسه مُلقيًا بسجيارته على الأرض، تحدَّث بعصبية قائلًا:
– ليست ابنتي.. ليست ابنتي.
وأخذ يكررها عدة مرات.
المأمور: كالعادة يرمي الجاني اللوم على زوجته، ومَن حوله هم السبب في جريمته، ولكن في هذه الجريمة وضع آخر لا تنكره؛ لأنَّها عن طريق الحقن المجهري كل الأمور تثبت فعلتك، فلا مبرر من ذلك.
ردَّ مستهزئًا بحديث المأمور:
– لقد أصبحت جميلتي وحبيبتي في عالم آخر، دخلت مستشفى الأمراض العقلية.
المأمور: بالطبع، فهي لا تتحمَّل صدمة ما حدث خاصةً بعد موت طفلها الثاني.
نظر كاظم بارتجاف للمأمور ثم طلب إشعال سيجارة أخرى، وأكمل المأمور حديثه:
– أليس كذلك يا كاظم؟ لقد أنجبتم طفلًا آخر يُسمَّى ألبرت بعد أربع سنوات من عمر ابنتك ليليث وكان حملًا طبيعيًّا دون تدخُّل الأطباء والعلاج، ولكن القدَر حرمك من طفلك بعد عامين وتوفَّاه الله، فلم يكن الأمر سهلًا على زوجتك، أليس ألبرت ابنك أيضًا يا كاظم؟
ضحك كاظم ضحكًا هستيريًّا وأخذ نفسًا عميقًا من سيجارته..
غضب المأمور من استهجان كاظم له سائلًا إيَّاه بكل حدة:
– ما الذي يضحكك إلى ذلك الحد؟
– دَعني أسرد لك باقي القصة لأكشف لك الحقائق، فليس هناك وقت؛ فأنا في جميع الأحوال ميت.
علَت الدهشة ملامح المأمور من حديث كاظم وأسلوبه، أثار عقله وتشويقه لإكمال حكايته وقال:
– اسرد حكايتك يا كاظم.
التفَّ كاظم نحو المأمور قائلًا:
– سوف أسرد لك مقابلة الجحيم مع بروفيسور (أنطونيو كوهين).. بعدما تم تحديد موعد مع البروفيسور طلبوا عمل فحوصات طبية جديدة داخل المعهد قبل المقابلة فور انتهاء الفحوصات ونتيجتها، أرسلوا إلينا رسالة تحديد الموعد، ولكن حدث أمر غريب.. حيث نصَّت الرسالة على تحديد مكان آخر خارج المعهد تمامًا، وسوف تأتي سيارة خاصة لتوصيلنا إليه، وأعادونا مرة أخرى مع ملاحظة عدم اصطحاب أي هواتف ذكية أو أجهزة محمولة، كانت بالنسبة لنا شيئًا غريبًا وكأننا على مشارف دخول مقابلة رجل من رجال المخابرات وليس طبيبًا، تعجَّبنا من ذلك الأمر وازداد خوفي ورهبتي أكثر وأكثر، كدِتُ أن أتراجع عن الأمر ولكن زوجتي كانت تصرُّ على إكمال وإتمام العملية.
كانت المقابلة صباح اليوم التالي في تمام الساعة الـ ٣ صباحًا، أرسلوا إلينا سيارةً سوداء اللون من أفخم أنواع السيارات فارهة الطول، لم نرَ سائق السيارة فهو كابينة معزولة تمامًا، وبمجرد أن دقَّت الساعة الـ ٣ صباحًا فُتِحت أبواب السيارة تلقائيًّا ودخلنا السيارة، لم نجد أي حد لنحدِّثه، وفجأةً.. تحرك أمامنا كرسي السيارة مخرجًا ذراعًا يقدِّم لكلٍّ منَّا كأسًا يحوي شرابًا غريبًا رفضنا تناوله، ولكن لم تتحرك السيارة وأضاء إنذار أحمر يشير بتناول الكأس، لم يكن أمامنا سوى شربه، وبالفعل مجرد أن وضعنا الكأس تحركت السيارة في ثوانٍ وتغيَّبنا عن الوعي تمامًا.
وبمجرد وصولنا استيقظنا من نومنا فجأةً، فُتِح باب السيارة تلقائيًّا فوجدنا أنفسنا أمام قصر شامخ يرجع للعصور التاريخية تعلوه قبة مرصَّعة بالذهب وتماثيل على هيئة أشكال شيطانية، وساحة حديقة لا يستطيع نظرك أن يجيء بآخرها.
خرجت إلينا سيدة في عقدها الخامس من عمرها، استقبلتنا متحدثةً الإنجليزية وتحدَّثت معها بطلاقة، بضع ثوانٍ وكنا بالداخل في استراحة كبيرة بأنوار خافتة، انتظرنا دقائق حتى أذنت لنا السيدة بالدخول لمكتب البروفيسور، بدأت تتسارع ضربات قلبي ويزداد ارتعاش جسدي حتى زوجتي حاولت أن تتراجع، ولكن لا مفر.. كان إحساسًا مخيفًا وكأننا ننتظر الموت، فتحت مكتبه وأُغلِق الباب علينا، حرارة المكان في زيادة مغايرًا للطقس العام، أحسست برعب حين أدار وجهه مرحِّبًا بنا، لم أرَ في هيبته، كثيف الشعر أسود اللون مسحوب العينين صغير الشكل، شاب في ريعان شبابه يداه بيضاوان، ووجهه شاحب كأنه لم تنبض به الحياة من قبل.
جلسنا متلبسين بالخوف، تلعثم لساني عن التحدُّث بالإنجليزية، فقد نسيت أيضًا لغتي الأصلية، وفقدت القدرة على الكلام حتى وجدته نطق العربية بطلاقة، نظرت أنا وزوجتي إلى بعضنا.. حتى تحدَّث قائلًا:
– لا تخافوا، أنا أتحدَّث كل لغات العالم بحُكم عملي وتنقُّلي من دولة إلى أخرى، أهلًا بكم في أكبر معهد في العالم لتغيير الجينات الوراثية وطفلك حسبما تريد، العلم ثم العلم ثم العلم يعطيك ما تريد وتقول المزيد.
لم أتفوَّه بكلمة وهو يتفاخر بنفسه وبالعلم، ثم تحدَّث إلى جاكلين قائلًا:
– أهلًا يا جميلة الجميلات.. تريدين المولود بنتًا؟
قال تلك الجملة ولم نبتلع ريقنا، فنحن لم نخبر أحدًا باختيار نوع الجنين، ولم يسألنا أحد من قبل على نوع اختيار المولود ولا المواصفات، أخذت الحديث على محمل الدُّعابة لا أكثر، ثم تحدَّث إليَّ قائلًا:
– السيد كاظم السلحدار، أودُّ أن أعترف لك بشيء أمام زوجتك، أريد أن تكون كل الأمور واضحة فلا مجال للتراجع، تقرير الفحوصات الطبية تنبَّأ بأنَّ لديك مشكلةً في خصوبة الحيوانات المنوية وعددها مع وجود بعض التشوُّهات.
نظرت إليه بغضب وتكلَّمت بحدة قائلًا:
– من أين أتيت بذلك؟ فجميع الفحوصات في مصر مُغايرة تمامًا لما تقول، ولم يُعلِمني أحد من الأطباء بذلك.
ضحك البروفيسور قائلًا:
– إذًا لماذا أتيت إلى هنا طالما الوضع سليم؟ هل زوجتك تعلم بالأمر أم تفاجئت معك؟ اسأل زوجتك أولًا بحقيقة الأمر.
صمتت جاكلين عن الحديث ثم تحدَّث كاظم بغضب سائلًا إيَّاها:
– هل كنتِ تعلمين ذلك؟
هل تعرفين حقيقة أمري؟
كيف أخفيتِ ذلك وكنت معكِ خطوةً بخطوة؟
كيف زوَّرتِ الحقيقة؟
تحدَّثت قائلة:
– كنت أعلم حقيقة الأمر منذُ البداية، وتابعت الفحوصات قبل ذهابك وكنت أطلب من المعامل والأطباء عدم إفصاحهم بالحقيقة؛ حتى لا تخجل مني أو علاقتنا تتدمر، لو كنت علمتَ الحقيقة كان من حقي كزوجة أن ألجأ للكنيسة وأطلب الطلاق، ولكن أردت العيش معك وأحببتك وتعهَّدت للوصول لحل تلك المشكلة دون أن تدري، حاولت مرارًا وتكرارًا إعطائك أدويةً دون علمك ووضعها في طعامك وشرابك، ولكن دون جدوى.. أخفيت عنك الحقيقة؛ لأني أحبك.
تدخَّل البروفيسور في الحديث الأُسَري قائلًا:
– هي تعلم يا سيد كاظم الحقيقة، وتريد مولودًا يحمل اسمك، كل شيء سوف يُعالَج ويُحَل، ليس ثمَّة أي خلافات بعد الآن.
تحدَّثت وأنا مُنهَك العقل والتفكير، أصابني الجنون والحيرة ماذا أفعل وأنا أمام واقع مرير.
ثم تحدَّث البروفيسور قائلًا لي:
– الموضوع بسيط، سوف تنجب مرةً واثنتين، نحن لدينا كل الحلول، أنت أتيت من أجل الحل، السيدة جاكلين جميلة وذكية استطاعت أن تحل المشكلة بكل سهولة، كل ما عليك هو الموافقة، وهناك مفاجآت من أجلك.
نظرت إليه بكل أسف وحزن، لم يعد هناك حل سوى الموافقة.. أبديت موافقتي فتحدَّث قائلًا:
– إذًا يجب أن تعرف أنَّ هناك عقد مدى الحياة لمتابعة ذلك المولود بصفة مستمرة ومتابعة أي مولود آخر لك بعد إجراء العملية وأخذ العينات منك ومنها كذلك ليس من حقك تسمية المولود الأول لك فهو من حقنا، فهو مولودنا بالاختلاط بعينتك وتعديل بعض الجينات الوراثية للجنين، سوف يُختَم المولود في أسفل الظهر بختم المعهد كالوشم، ذلك الختم يحتوي على جميع بياناته.
لم يحق لك الإخلال بذلك العقد والإفصاح عنه لأحد، ستبقى السيدة جاكلين تحت رعايتنا طيلة فترة الحمل حتى الولادة، بالمناسبة يا عزيزي.. سوف نتبرع للمولود بقيمة مليون دولار وجميع طلبات الأم والمولود مُجابة.
اندهشت من كلام البروفيسور، كل تلك الشروط وكأنه عقد الشيطان، ثم سألته:
– ماذا لو..
قاطعني قبل أن أنطق..
– لا يوجد كلمة لو إذا حدث وأخللت بأحد الشروط سوف تُقلَب حياتك رأسًا على عقب، وما وجه الاعتراض إذا كان كل شيء متاحًا لك، المال والبنون والرعاية، أتريد الجنة يا عزيزي؟ أنت طماع.. اتركنا نعمل في صمت.
ثم أدار وجهه اللعين عني وتحدَّث مع جاكلين:
– سيدة جاكلين، ماذا تحبين أن يكون لون شعر ابنتكِ ليليث؟
نظرت له جاكلين قائلةً:
– ليليث مَن أيُّها البروفيسور؟
– ابنتكِ يا عزيزتي، سوف أجعلها جميلة الجميلات.
كانت الصدمة تخيِّم علينا، وضعتنا جاكلين في جحور الشياطين فلم نستطِع فعل شيء سوى الرضوخ لذلك الأمر المخزي الذي ترفضه جميع الأديان السماوية، كيف أقابل ربي؟ أبيع نسلي من أجل شهوةٍ رخيصةٍ جعلتها سلعةً تُباع وتُشترَى، أودُّ أن أقتل نفسي أولًا ولا أرى تلك اللحظة.
قاطع المأمور حديث كاظم وهو يتصبَّب عرقًا من هول ما يقول، لم يصدِّق ذلك.
– كيف ذلك؟ كلامك لا يصدِّقه أحد.. أين ذلك العقد؟ وما الذي يُثبت صدق كلامك؟
– للأسف يا سيدي، العقد ليس ورقًا، العقد كان بالدم مني ومن زوجتي، لا يوجد عقد مُبرَم.
– عقد الشيطان تقصد؟
– نعم يا سيدي بالفعل، وأمَّا ما يُثبت صدق كلامي فأنا لا أحتاج دليلًا لبراءتي، لقد سلَّمت وعيي ونفسي بكامل إرادتي، كل ما أريده هو أن أكمل قصتي، فهذا هو الشيء الوحيد الذي يريحني ويجعلني عِبرةً لكل طامع في الحياة لا يرضى بقضاء الله وقدره، لكل مَن يسعى جاهدًا لأن يأخذ شيئًا لم يُكتَب له، كان لديَّ المال والسُّلطة ففقدت كل شيء من أجل إرضاء امرأة، كانت حواء سببًا في إخراج آدم من الجنة، كان لديها كل شيء عدا البنين، رفضت القنوع مثل حواء رفضت كل ما حولها وهي في جنة الرب من شجرة الخُلد، تجسَّد الشيطان في عقل امرأة لرضوخ رجل من أجل شهوة رخيصة، سوف أكون عِبرةً لكل طامع وكل جشِع، لكل مَن يخطو خطوات الشيطان.
وها هي الآن جميلتي وحبيبتي جُنَّ عقلها من هول ما رأته، ابتلاها الرب بفُقدان عقلها الذي تجسَّد به الشيطان.. لقد فقدت المال وزوجتي وفقدت نفسي قبل كل شيء وخُنت الرب.
أخذ يبكي على ما وصل إليه حاله، فتأثَّر المأمور بحديث كاظم طالبًا منه أن يهدأ ويستريح ويكمل في وقت آخر، ولكن كان رد كاظم:
– لا، لن يسمح لي الوقت بالكثير، أريد أن أكمل باقي الحكاية.
ثم تركه المأمور يكمل حديثه قائلًا:
– وماذا بعد أن تمَّ إبرام العقد مع البروفيسور؟
ردَّ قائلًا:
تحدَّد موعد لأخذ عينات مني ومن زوجات لعملية الخلط والجينات الوراثية، ثم تم تحديد مواصفات الجنين ونوعه، أرادت جاكلين بنتًا شقراء الشعر، زرقاء العين، مستديرة الوجه، ذات ذكاء حاد.
قاطع المأمور كاظم سائلًا إيَّاه:
– وهل يحدِّدون نسبة الذكاء؟
أجاب كاظم:
– الأمر أخطر من ذلك بكثير، فهو في جميع الأحوال مخلوق ذكي.
ثم أكمل حديثه:
وبعد أخذ العينات وخلطها تم المكوث لمدة ٤٥ يومًا؛ للتأكُّد من سلامة العينة، وأنه تم التخصيب وتعديل الجينات الوراثية، أو بمعنى أدق التهجين.
المأمور: تهجين ماذا؟
كاظم: ذلك الكائن الغريب على هيئة إنسان ثم التلقيح والحقن داخل الرحم، وبعد التأكد من مرور ٤٥ يومًا أُخَر يتم التأكد من صحة نمو الجنين في رحم الأم، بعدها سافرت وعدت إلى القاهرة وتركت جاكلين بين أنيابهم، لا أستطيع التحدث في شيء خوفًا على زوجتي، كل مَن يسألني عنها من أسرتها أقول في رحلة علاج، لقد وجدنا علاجًا في إحدى المعاهد ويجب المتابعة الجيدة.
وبعد مرور ٩ أشهر تعذَّبت زوجتي أثناء الحمل، جاءت لحظة الولادة وميلاد ذلك المخلوق، سافرت قبل ولادتها بيوم وحضرت لحظة الولادة، أقذر وقت في حياتي مرَّ عليَّ، كنت أنتظر أن أكون أبًا، كرهت تلك اللحظة.. أسوأ إحساس مررت به في حياتي.
وبالفعل خرجت الطفلة من بطن زوجتي تصرخ كباقي الأطفال، وعند بداية نزولها ما إن لبثت أمها تتحسَّسها حتى خطفتها منها الممرضة وأخذتها بعيدًا عن أعيننا، فنحن مجرد وعاء لهم وحقل تجارب، لم نرَ المولودة إلَّا بعد مرور أسبوع كامل، دخلت علينا الغرفة تحتضنها الممرضة، كانت أول نظرة لتلك المولودة، ضمَّتها جاكلين إلى صدرها ونظرت إليها، تلك اللحظة التى تسعى إليها كلفتنا الكثير والكثير.. كلفتنا أنفسنا، خُتِمت المولودة بختم المعهد، وشم يتكون من ٣ مثلثاث متداخلين ببعض من الرأس والأسفل والجانب، وهناك كود تحت ذلك الشعار يحوي بيانات المولود كاملةً.
مرَّ شهر حتى أتى البروفيسور قائلًا:
– حاليًّا تستطيعون السفر، مبارك نجاح العملية، ليليث بنت جميلة، غدًا يكون لها شأن عظيم، المتابعة كل ٦ أشهر، وفي حالة حدوث أي شيء غريب يُرجَى التواصل معنا فورًا، يوجد فريق للطوارئ جاهز بصفة مستمرة.. كل ما أطلبه الكتمان ثم الكتمان ثم الكتمان.. مبارك لكما.
المأمور: وماذا بعد؟
أتينا إلى القاهرة وكانت الأمور إلى حدٍّ ما مستقيمةً واستمررنا في المتابعة كل ٦ أشهر حتى أصبحت ليليث في عمر ٣ سنوات، هنا بدأت الكارثة..
المأمور: ماذا حدث؟
– سوف أسرد حقيقة ليليث.. بدأت ليليث في الصراخ ليلًا كل يوم، لم تستطِع تحمُّل ضوء الشمس إلا بحقنها ببعض المواد والأدوية بناءً على تنبيهات المعهد والبروفيسور، الكل يتحاكى بجمالها ولكن طوال الوقت باردة الجسم، وكأنَّها لم تدبُّ بها الروح، حتى بلغت الخمس سنوات، في تلك اللحظة رزقنا الرب بابن من صُلبي دون عناء وتدخُّل أطباء، ولكن حدث ما لم يتوقَّعه أحد حتى أتم السنتين، تلك هي الفاجعة الحقيقية.. تحوَّلت ليليث لكائن شرس يتحول لون عيونها إلى الأسود كاملًا، صراخ دائم وعواء كالكلاب، لديها قوة وذكاء حاد أخفيناها بعض الشيء عن أعين الناس، أوقات تكون هادئة وأوقات لا تستطيع السيطرة عليها، وكان اهتمامي بـألبرت ابني من صُلبي، وكذلك جاكلين بدأت تخاف من ليليث وأوقات تحبسها؛ لعدم القدرة على السيطرة عليها.
تحدَّثنا مع البروفيسور بشأن ذلك، وكانت الإجابة: تغييرات تحدث على مدار سنوات، وعند البلوغ سوف يكون كل شيء على ما يُرام، بلغ ألبرت من العمر سنتين، كنت وقتها في حديقة الفيلا آخر الليل منشغلًا ومنهمكًا في العمل على الحاسوب، وزوجتي تستحم تاركةً ألبرت يلعب حتى بدأ الصراخ يعلو، خرجت جاكلين من حمامها منتفضةً، صُعِقت من هول المنظر، أتيت في التو فوجدت ألبرت في أنياب ليليث تمضغ جزءًا من رقبته، فقدت جاكلين الوعي تمامًا وانهالت على ليليث بالضرب وهي في حالة هياج تام، قمت بحبسها وأنا أبكي على ولدي ابني ألبرت من صُلبي، ولكن ماذا أفعل؟ هناك جريمة حدثت بالفعل، قتل متعمد.
اتصلت وقتها بالبروفيسور وسردت له كل التفاصيل على الفور، خلال ساعة أتى الفريق ومعه كلب شرس قام بالتهام جزء من رقبة ألبرت وتم قتل الكلب ببندقيتي للصيد، وعلى الفور ذهبوا إلى ليليث لتهدئتها ومسح الآثار من فمها، وقاموا بمعالجة زوجتي وإعطائها مخدر مؤقت، وانتهت الواقعة على حادثة كلب قتل الطفل ألبرت، من وقتها جاكلين بدأت في العلاج النفسي وتركت الفيلا وانعزلت عن العالم، وكنت أذهب للاطمئنان عليها، وخلَت الفيلا إلا مني وليليث.
ولكن بدأت الأمور تخرج عن السيطرة، وازدادت حالتها سوءًا ومنعتها من الخروج تمامًا، لم ترضَ أي مربية للجلوس بها، الكل يخشاها، تركت كل أعمالي وأصبحت بجانبها، بلغت من العمر سبع سنوات من العذاب والألم، تحمَّلت الكثير والكثير، ذهب كل شيء من أجل شيء واحد!
تلك هي الفاجعة.. أين ابني؟ أين زوجتي؟ أين أنا؟ لا يوجد شيء سوى ليليث تتربَّع على عرش البيت دون منافس حتى عملي فقدته وتفرَّغت لها وكأني أصبحت مربي ومروض أسود أو كائنات وحشية، تركتها وحدها بالفيلا بعد أن حبستها في غرفتها المظلمة، وذهبت إلى الكنيسة؛ لكي أتوب وأمسح أخطائي؛ حتى يغفر لي الرب، جلست على كرسي الاعتراف وبُحت بكل شيء وبكيت حتى فقدت الوعي، أتى إليَّ الراهب بعد أن سمع قصتي، لم يصدِّق ما أقوله، قال نفس كلمة القسيس:
– صديقي، لقد جنيت ثمار الشيطان.
ولكنه أكمل بكلمة أخرى..
– وعليك قطفها من الجذور.
وحكى لي قصةً من القرآن، قصة الخِضر مع موسى الذي قتله الخِضر عمدًا؛ لمنع الأذى عن أبويه الطيبين، تلك حكمه الله على الأرض، لقد منعك الرب ليختبر إيمانك، ولكنك رميت نفسك في حضن الشيطان ثم رزقك بطفل وأخذه ليقول لك: أنا العاطي والمانع والآخذ، ثم ترك حياتك للشيطان.. طهِّر نفسك يا بُني.
تركت الكنيسة وذهبت إلى الفيلا بعد أن بُحت بكل أسراري وأعلم ماذا سيحدث لي إذا أعلنت الخبر، دخلت الفيلا للاتصال بالبروفيسور وقلت:
– كل أموالي مِلك لك، ولكن خُذ ذلك الكائن؛ لكي أنعم بحياتي كاملة، ولكن لم يجِب، فتحت الباب على غرفتها وجدتها ملتصقةً بسقف الغرفة تهجم عليَّ وتعاقبني لحبسها، بدأت تنهش فيَّ فأزحتها بيدي وخرجت، قامت بكسر باب الغرفة وخرجت منقضَّةً مرةً ثانيةً نحو غرفة الأسلحة وهي تنهش فيَّ من الخلف، أمسكت بندقيتي وصوبَّتها نحو صدرها، لم تمت.. أعرف أنها كائن شيطاني.
استرخيت على الأرض وقبل أن تعيد صوابها وقوتها قمت بربطها وأخذتها إلى الحديقة جارًّا جسدها الملتطخ بالدماء وربطتها بالشجرة، وأحضرت بنزين من سيارتي وأنزلته عليها، وأشعلت نارًا في يدي وأسقطتها عليها.
بدأت تصرخ وتعوي كالحيوانات، وتتحوَّل إلى كائن مسخ شيطاني يمشي على الأرض، وجلست وأنا أشعل سجاري وأشاهد ذلك المشهد مبتسمًا لما فعلته، رأيتها وهي تتفحم حتى أصبحت رمادًا لا وجود لها، ثم توجَّهت نحو الشرطة لأبلغ عن نفسي متحملًا كل العواقب.
– الآن أستطيع أن أعيش حرًّا.. الآن أستطيع أن أقابل الرب.. تلك هي قصتي سيادة المأمور، أرجوك.. دعني في زنزانتي؛ أنا أستحق العقاب.
وبعد أن أنهى كاظم قصته مع ذلك المخلوق جنين الشيطان دخل زنزانته؛ ليستريح، ولكن في اليوم التالي حدثت مفاجأة!
أخذ حارس السجن يصيح:
– يا سيادة المأمور.. يا سيادة المأمور.
– ماذا حدث؟ لماذا الصياح؟
حارس الأمن: المتهم كاظم يا افندم.
مأمور: ماذا به؟ أرِني زنزانته.
ذهبوا إلى الزنزانة فوجدوه مقتولًا مقطوع الرأس وبجانبه ورقة عليها شعار ٣ مثلثات متداخلة، نظر إليها المأمور وقام بتمزيقها، وطلب من الحارس سكينًا ووضعها بجانبه.