رأس العنكبوت.. ديستوبيا صناعة مشاعر الطاعة العمياء
كتبت/ ميرا فتحي
على مدى سنوات التاريخ البشري الحديث، ثمة شيطنة أحدثها الأدب والسينما للأطباء الذين يُقدمون على تجربة أدوية وعلاجات جديدة واختبارها على الناس. الفكرة ذاتها تقابل باستهجان شديد من الجميع، فيما عدا قليل من الأطباء الذين يجدون الخلود في تحقق نبوءاتهم الخيالية، سواء كانت طيبة تفيد الآخرين أو شريرة تستغل وجودهم بكل الأشكال الممكنة.
هناك بداية تؤسس للفكرة التي حازت نجاح كل من يعيد كتابتها أو تصويرها، وكانت من الدكتور فرانكنشتاين. وفرانكنشتاين هي رواية للمؤلفة البريطانية ماري شيلي صدرت سنة 1818، تدور أحداثها حول فيكتور فرانكنشتاين من عائلة فرانكنشتاين إحدى أغنى العائلات في ذلك الوقت.
يرغب فرانكنشتاين في اكتشاف إكسير الحياة الذي يبقيه هو وصديقه هنري وصديقتاه إليزابيث وجوستني أحياء للأبد، فيسعى لخلق إنسان جديد، ويعزل نفسه من أجل هذا الاختراع البشري الذي سيحسّن شعوره الإنساني، وشعور الجميع في تصوره.
منذ “الدكتور فرانكنشتاين” وحتى الفيلم الأحدث “رأس العنكبوت” (Spiderhead)، تشكّل لدى الجمهور وعي ضد تلك الشيطنة التي لا تضع في حسبانها مساحة التجربة الإجبارية التي لا يمكن الفرار منها لصناعة علاجات تساهم في التقدم البشري عموما، في مقابل كل التجارب الأكثر شرًا ودراما بالطبع.
في فيلم “رأس العنكبوت”، نشاهد طبيبا يجري تجارب على سجناء، سعيا وراء إنتاج أدوية يمكنها تعليب المشاعر البشرية وإطلاق العواطف الإنسانية آليا، حيث يمكن للفرد بعد تناول هذا الدواء ممارسة أقصى حماقاته دون إحساس بالخجل، وربما تجعله يمتثل لطاعة عمياء لكل ما يؤمر به.
كيف يصبح ذلك ممكنا؟ الخطوة الأولى تكون بإعطاء مساحة حرية موهومة لأشخاص يتصورون أنهم في حالة اختيار، بينما يصبح قبول وجودهم فئران تجارب أهون عليهم من السجن القبيح.
يسعى الدكتور المحتال أبنستي -الذي يلعب دوره بشكل غير جيد على الإطلاق كريس هيمسورث- للاستعانة بسجناء وإقناعهم بأنه سيختبر عليهم أدوية يمكنها تنقية المشاعر، للحصول على أكبر قدر من السعادة والتقبل. ويُعرَض الموضوع عموما على المحكوم عليهم باعتباره فرصة للتطوع في تجارب طبية لتقصير مدة عقوبتهم.
الفكرة الشيطانية التي يعرضها الفيلم تظهر في عقار جديد قادرعلى توليد مشاعر الحب ثم التشكيك في حقيقة العواطف، بحيث يصبح هذا الرجل غير قادر على تحديد طبيعة مشاعره من الأساس، وبالتالي يمكنه تقبّل كل شيء ممكن بشكلٍ أعمى مهما بلغت درجة قبحه إذا كان تحت تأثير تلك العدمية.
وتنسحب رمزية الفيلم على موضوعات اجتماعية تتخطى شيطنة الطبيب، مثل الحرية الفردية المعاصرة التي يمكننا القول إنها مُفتقَدة لأبعد الحدود، والسيطرة الكاملة للرقمية التي تسعى للقبض على كل شيء يعطّل طريقها.
أما البُعد السياسي الذي قد يظنه البعض في فكرة إنتاج طاعة عمياء تجعل الجماهير تتقبل الشرور التي تقدم إليها، فهو تصور مبتسر عن الفيلم، وربما لا يعني شيئا لصنّاعه القادمين من منطقة الخيال العلمي أكثر من اهتمامهم بالخطاب الأيديولوجي الذي قد يحمله السيطرة على سجناء واعتبارهم فئران تجارب.
وأما الاجتماع والسياسة والثقافة العامة التي ساعدت على احتواء كل ذلك، فقد جاءت من إنسان مرعوب من أخيه، يقدّم كل يوم عربون محبة للشيطان من أجل السيطرة التي تجعله يطمئن جزئيًا في عالم مرعب.
تتقاطع الكاميرا مع الطبيب الشرير الشديد الإيمان بفكرته التي يعتبرها تغييرا للعالم، بينما تملأ عينيه نظرات الرعب والخواء التي يثبّطها كل مرة بأدوية “إكسير الحياة” الذي يوهمه بسعادة لحظية في كل مرة.
وربما يأتي تساؤل الفيلم الأكثر أصالة من الطبيب لا من السجناء الذين يدفعون ثمن أخطائهم، وتصبح فلسفته هي: هل يستحق شعور السيطرة كل هذا الدمار؟ هل تستمر الحياة فعلًا دون شعور الحب الذي يخلق كل شيء بعده؟
مُخرج صاعد لا يوقفه شيء
تساءل العديد من المهتمين بالصناعة السينمائية حول العالم عن المخرج جوزيف كزنسكي، الذي قدم مع مطلع هذا العام اثنين من أفضل أفلام العام على الإطلاق، كان أولهما “توب غن” (Top gun) ثم فيلم “رأس العنكبوت”.
والفيلمان كلاهما استمدا أحداثهما من كتابات صحافية رصدت جوهر القصة التي استغلتها السينما لتلقي عليها ضوءا أكثر، كما واجها مساحات قلق وشد وجذب بين الصناع حول حقوق ملكية الأفكار التي كتبت منذ سنوات والقصص التي تم تحويلها بصريا، وكلاهما استغلا أكثر إمكانات الممثل ميلز تيلر وموهبته الكبيرة المنتظرة إلى أبعد الحدود.
ولهذا المخرج شطحات كبيرة منذ لحظة وجوده على الساحة بفيلم “تروي” (Troy) الذي حصد ملايين الدولارات في السينمات حول العالم ولفت الأنظار إليه، وإلى جانبه دائمًا مدير التصوير العبقري كلاديو ميراندا.
ويقدم المخرج تصوّره البصري المميز من خلال قصص ذات علاقة وثيقة بالأدب والصحافة، ويبدو أنه نجح بشكل كبير في إضفاء لمسة بصرية يجدها كل متفرج. وربما في هذه النقطة يمكن التأكيد على جوهريتها للأدب كما السينما، في ظل وجود مخرجين يمكنهم صناعة عمل بصري من مادة مكتوبة.
“رأس العنكبوت” فيلم جيد على أقصى تقدير، استغل فكرة كتبتها الصحافة عام 2010 ولاقت صدى كبيرا بين القراء، ربما لرمزيتها التي يمكنها احتواء كل شيء، وتشير خصوصًا إلى ما يمكن أن نعيه “عربيًا” بدلًا من أن نتجاهل الصحافة ونحجبها.