“نورد ستريم 2” وأوكرانيا.. من ينجح في توظيفهما ضد الآخر روسيا أم الغرب؟
كتبت/ ميرا فتحي
تتصاعد التوترات بين روسيا والغرب قضايا وملفات عدة كأزمة أوكرانيا ومناورات عسكرية بالبحر الأسود، فضلا عن ملفات كسوريا والأمن السيبراني، لتنضم إليها مؤخراً قضية ارتفاع أسعار الغاز بأوروبا، في ظل الجدل الدائر حول خط أنابيب الغاز “نورد ستريم 2” في روسيا.
تتصاعد التوترات بين روسيا والغرب في العديد من القضايا والملفات كالأزمة في أوكرانيا والمناورات العسكرية في البحر الأسود، فضلا عن ملفات كسوريا والأمن السيبراني، لتنضم إليها مؤخراً قضية ارتفاع أسعار الغاز في أوروبا، في ظل الجدل الدائر حول خط أنابيب الغاز “نورد ستريم 2” في روسيا.
ويهدف مشروع “نورد ستريم 2” لمضاعفة امتدادات الغاز الطبيعي الرخيص من روسيا إلى ألمانيا، والتي تراها الأخيرة خطوة لابد منها لمساعدتها على التحول من الفحم والطاقة النووية.
غير أن المشروع يلقى معارضة شديدة من حلفاء الناتو والولايات المتحدة شرق أوروبا، وعلى رأسهم أوكرانيا، التي ترى في المشروع تهديداً لأمنها واقتصادها. فمن المتوقع أن تتراجع عائدات أوكرانيا من عمليات نقل الغاز الروسي عبر أراضيها بما نسبته 4% من مجمل الناتج المحلي.
كما عارضت الولايات المتحدة المشروع، وفرضت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب عقوبات على روسيا والشركات القائمة على المشروع، مما أدى لعرقلة إنجازه، حتى بات يوصف أنه “قطعة ضخمة من الصلب في قاع البحر”.
ترى الإدارة الأميركية السابقة أن مشروع “نورد ستريم 2” يشكل تهديداً لأمن الطاقة في أوروبا، ويضعه رهينة التدخلات والضغوطات الروسية، مما يهدد مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، ويعطي الروس فرصة اقتصادية قد تساهم في قدرتها على تجاوز العقوبات الأميركية التي تفرض عليها.
ويدعم هذا الرأي حالياً جمهوريو الكونغرس الأميركي. فقد هدد السيناتور تيد كروز الشركات الألمانية العاملة في المشروع بفرض عقوبات “ستدمر شركاتهم”. كما تعهد بطرح مشروع قرار، في يناير/كانون الثاني القادم، يعيد فرض العقوبات الأميركية على مشروع “نورد ستريم 2” التي رفعتها إدارة بايدن، في ظل مساعيها لتحسين علاقاتها مع ألمانيا وترميم المرحلة الترامبية مع أوروبا ودول الناتو.
تحديات تواجه المشروع
لكن المشروع الذي تبلغ تكلفته 10 مليارات يورو (12 مليار دولار) يواجه مؤخراً تحدياً جديدا فرضته 3 عوامل رئيسية تتمثل في تصاعد الأزمة في أوكرانيا، وارتفاع أسعار الغاز في ظل تزايد الطلب عليها فصل الشتاء، بالإضافة للتحول السياسي الحاصل في ألمانيا في ظل الائتلاف الحكومي الجديد الذي يضم في صفوفه حزب الخضر أحد أبرز المعارضين للمشروع الروسي.
وفي هذا الحال، بات الجدل على المشروع الروسي يتشابك مع عدة ملفات تشكل رؤية الولايات المتحدة، ومعها حلف الناتو، عاملاً مهماً فيها. الأمر الذي يضع المشروع وقضايا الغاز والتصعيد في أوكرانيا في ميزان المقايضة بين روسيا والغرب.
من جانبها، ترى موسكو أن ممارسة الضغوط على مشروع “نورد ستريم 2” ستظهر نتيجته في أوروبا أكثر منها في روسيا. إذ ستدفع هذه الضغوط روسيا لتقليص إمداداتها من خط الغار إلى أوروبا، حيث قامت موسكو مؤخراً بخفض صادراتها من الغاز عبر خط “يامال أوروبا” أحد المسارات الرئيسية لإمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا.
وهو ما أدى لارتفاع أسعار الغاز، والذي سيؤثر، في حال استمر، على مجمل الأسعار في أوروبا ومعدلات التضخم، مما يهدد الاستقرار السياسي لبعض الدول الأوروبية التي ما زالت تعاني من تداعيات جائحة كورونا.
مشروع جيوسياسي
وفي هذا الصدد، قدمت موسكو مسودات “ضمانات أمنية” تعاقدية إليها من الناتو وأميركا، والتي من شأنها استبعاد أي توسع في الحلف، أو أي نشاط عسكري في المناطق التي تعتبرها روسيا “مجالاً حيوياً” لها.
وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنهم يأملون الحصول على “إجابة واضحة وشاملة” ومفاوضات “ضمن مواعيد نهائية معينة”. كما شدد على أنه لم يكن إنذاراً نهائياً. وأضاف أن هناك “خطرا” يتمثل في أن “كل مقترحاتنا ستغرق في الوحل” محملا الولايات المتحدة مسؤولية التوتر في أوروبا.
من جانبه، قال الرئيس الأميركي جو بايدن إن العقوبات الاقتصادية ستكون في “طليعة الانتقام” إذا صعدت روسيا الأعمال العدائية، حيث يريد مسؤولو إدارته أن يتم هذا “الانتقام” بالتعاون مع الحلفاء الأوروبيين، مما يجعل التعاون الألماني ضروريا لاستهداف “نورد ستريم 2”.
وقالت كارين دونفريد مساعدة وزير الخارجية الأميركية للصحفيين الثلاثاء إن بلادها “تعتبر خط أنابيب نورد ستريم 2 مشروعا جيوسياسيا روسيا يقوض أمن الطاقة والأمن القومي لجزء كبير من المجتمع الأوروبي الأطلسي”. ورفضت الإفصاح عن تفاصيل المناقشات مع برلين، لكنها رفضت قولها إن الحليفين يعملان معا بشكل وثيق.
هل العقوبات فاعلة؟
ترغب الولايات المتحدة في توظيف العقوبات على مشروع “نورد ستريم 2” في الضغط على روسيا في ملف أوكرانيا، وتدفع ألمانيا لإلغاء المشروع في حال أقدمت موسكو على عمل عسكري ضد أوكرانيا.
ويقول أحد المساعدين بالكونغرس الأميركي -الذي اطلع على المناقشات مع ألمانيا- إن إدارة الرئيس تريد ضمان تأكيدات بأن برلين لن تسمح بتشغيل خط الأنابيب إذا غزت موسكو أوكرانيا.
وترى الولايات المتحدة أن روسيا توظف قضية الغاز بالضغط على أوروبا، وخاصة القوة الاقتصادية الأوروبية الأكبر (ألمانيا) لفرض شروطها في أوكرانيا وشرق أوروبا عموما.
من جانب آخر، أشارت حكومة المستشار الألماني الجديد شولز، بعد أسابيع فقط من توليه المنصب، إلى أنها ستواصل الاتفاق الذي توصلت إليه سلفه المستشارة السابقة أنجيلا ميركل مع بايدن في يوليو/تموز الماضي.
بموجب هذا الاتفاق، التزمت ألمانيا باتخاذ إجراءات “للحد من قدرات التصدير الروسية إلى أوروبا في قطاع الطاقة” أو قطاعات أخرى، إذا ارتكبت روسيا أعمالًا “عدوانية” تجاه أوكرانيا.
وقد أدى تعزيز ما يقدر بنحو 90 ألف جندي على طول الحدود الروسية الأوكرانية إلى مخاوف من هجوم عسكري روسي قادم على أوكرانيا، والذي قد يكون وشيكا أو يحدث في غضون الأشهر القليلة المقبلة.
وفي الواقع، دقت إدارة بايدن جرس الإنذار وتعمل بنشاط مع حلفائها الأوروبيين لردع روسيا والتخطيط للرد على غزو محتمل، ولا يبدو أن هناك سببا منطقيا آخر لزيادة القوات الروسية.
الغاز سلاح ضغط
من المرجح أن يسعى الكرملين من خلال إثارة قضايا الغاز والتسبب برفع الأسعار في أوروبا لتعقيد الأزمة الأوكرانية، حيث تحاول موسكو من خلال هذا الحشد غير المسبوق إجبار الولايات المتحدة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات لمناقشة مجموعة أوسع من القضايا، كما حدث في مارس/آذار عندما دفع حشد عسكري مماثل الرئيس الأميركي إلى دعوة نظيره الروسي لحضور قمة في جنيف.
فقد أعاد هذا الاجتماع التأكيد على دور روسيا كقوة عظمى. وترجم بوضوح حين حصل الكرملين على قمة رفيعة المستوى مع بايدن عبر الاتصال المرئي (قبل الصين) واتفاق لمتابعة محادثات الاستقرار الإستراتيجي، والمشاركة الثنائية في عدد من القضايا المختلفة.
حتى أن بايدن أعلن أن روسيا كانت “خصما جديرا”. ويدور الحديث الآن عن قمة شخصية أخرى مع بوتين، ربما أوائل العام المقبل. وبفضل التوترات الحالية بشأن أوكرانيا، سيلتقي الرئيسان هذا الأسبوع.
قضايا تشغل الغرب
وفي ظل انشغال الولايات المتحدة بقضايا الاستقطاب الداخلي ومعالجة آثار جائحة كورونا وتركيزها الكبير في سياستها الخارجية على الصين، تبدو روسيا أكثر استعدادا لفرض معادلات جديدة لها في مجالها الحيوي.
يدعم ذلك كله انشغال دول أوروبا في العديد من الأزمات والتحولات السياسية الداخلية، حيث تكافح مع عودة ظهور الوباء، وفي ظل حكومة ألمانية جديدة، وانتخابات فرنسية وشيكة، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. كما أن أزمة الهجرة على طول الحدود بين بيلاروسيا وبولندا أبعدت أنظار الاتحاد الأوروبي نسبياً عن أوكرانيا.
غير أن موقف واشنطن يعد محدداً رئيسياً في خيارات الغرب تجاه موسكو. وهنا يتم استحضار الموقف الأميركي حين ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، حيث اقتصر الأمر على التنديد التقليدي، وفرض عقوبات اقتصادية بات لموسكو خبرة طويلة في التعامل معها.
وقد يفهم من ذلك أن أزمة أوكرانيا نهاية المطاف تنتمي لنفس المنطق الأميركي الذي يرى أن أوكرانيا أكثر أهمية لموسكو منها لواشنطن.
كما أن التباين في الموقف الأوروبي والأميركي حيال الخيارات العسكرية للتعامل مع التهديدات الروسية لغزو أوكرانيا قد يدفع واشنطن لإعادة حساباتها، حفاظاً على وحدة الناتو والاستمرار في إستراتيجيتها في تعزيز تحالفاتها الإستراتيجية في مواجهة الصين.
وعليه، تبقى خيارات واشنطن بشكل أساسي معتمدة على آلية واحدة فقط للضغط على الكرملين، وهي العقوبات. ورغم أنها فرضت تكاليف اقتصادية كبيرة على روسيا، وعلى بعض الدوائر المقربة من بوتين، لكنها لم تفعل شيئًا يذكر لتغيير السياسة الروسية تجاه أوكرانيا.
كما أن هذه العقوبات قد تؤثر أيضا على أشخاص وشركات غير مرتبطة بروسيا أو النخب الحاكمة فيها، بما في ذلك حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا الذين تسعى إدارة بايدن إلى تحسين العلاقات معهم. علاوة على ذلك، يتوقع الكرملين أن المزيد من العقوبات قادم، وربما يكون قد استعد بالفعل له.
البحث عن حلول صعبة
ووسط تصاعد التوترات، تدور المناقشات حول الحلول الوسط الممكنة. فالأساس الحالي لحل النزاع الأوكراني الروسي هو اتفاق مينسك الثاني في فبراير/شباط 2015، والذي كان في الأساس تسوية منتصر تم فرضها على أوكرانيا الضعيفة.
ومنذ ذلك الحين، تم تكليف فرنسا وألمانيا وروسيا وأوكرانيا -فيما يسمى بصيغة نورماندي- بدفع العملية إلى الأمام. إلا أن روسيا وأوكرانيا تتفقان على تسلسل الاتفاقية التي تنطوي على سحب موسكو قواتها من دونباس، مقابل قيام كييف بسن إصلاحات دستورية من شأنها أن تمنح مزيدا من الحكم الذاتي لجمهوريتي دونيتسك ولوهانسك المعلنتين، واللتين تخضعان حاليا لسيطرة قوات موالية روسيا.
لكن حتى الآن، لم يحدث أي اختراق حقيقي في تنفيذ اتفاق مينسك. فأوكرانيا غير راغبة في نقل المزيد من السلطة إلى المناطق المحتلة دون أن تسحب روسيا قواتها أولاً من دونباس، وترفض كييف منح وضع خاص لهذه الكيانات، لأن ذلك قد يمنح روسيا حق النقض (الفيتو) على قرارات السياسة الخارجية لأوكرانيا.
كما أنه ليس من الواضح ما إذا كان الكرملين لديه أي نية لتنفيذ اتفاقية مينسك بصيغتها الحاليةـ ويعتقد العديد من المحللين أن مينسك قد باتت غير صالحة للتنفيذ.
وتتمثل إحدى الطرق الممكنة للخروج من هذا المأزق في إعادة التفكير في مينسك، واستبدالها بعملية تشمل الولايات المتحدة كلاعب مباشر وضامن حقيقي للاتفاق.
ويشير سلوك موسكو الأخير، بما في ذلك الأزمة الحالية، إلى أن الكرملين يرغب في الواقع أن توجه إدارة بايدن، التي تركز على الصين، المزيد من اهتمامها إلى روسيا، كما فعلت خلال قمة جنيف.
فقد اقترح الكرملين، على سبيل المثال، فتح مناقشات حول نظام أمني أوروبي أطلسي جديد، وقد تؤدي مشاركة الولايات المتحدة في اتفاقية مينسك المحدثة إلى تحقيق هذا الاقتراح.
ويمكن أن يدعو هذا الشكل الجديد إلى مشاركة قوات حفظ السلام الدولية، ويضع اتفاقية أوضح بشأن تسلسل خفض التصعيد الروسي الأوكراني. وكثيرا ما كانت العلاقات الأميركية الروسية مزيجا من التعاون والمواجهة.