لأجيال لم تر القدس.. الفن لمقاومة تشويه المدينة المقدسة المحتلة

تقول الناقدة الأميركية سوزان سونتاغ “إن الفنان حينما يصور المكان فإنه يستعيده” وهذا هو بالضبط ما أراده المشاركون في معرض “الطريق إلى القدس” باستحضار عبق المدينة المقدسة المحتلة وسحرها بطيف اللون.

ولكن المعرض لم يكن يهدف إلى إرضاء رغبة الفنان بجماليات المكان فحسب، بل كان يسعى لتجسيد هوية القدس العربية الإسلامية وتنشيط ذاكرة المتلقي وتحريضه كوسيلة لمقاومة المحتل الذي يشوه وجوده المكان.

وهذه هي الدورة الخامسة للمبادرة التي تقوم عليها مؤسسة “روابي فلسطين” التي أسس لها مدير المهرجان الفنان فايز الحسني بغزة عام 2015 في ذكرى النكبة لتقام كل عام بعدد من دول العالم بالتزامن، وتتناول موضوع القدس وهويتها وجمالياتها وتاريخها ومعمارها الهندسي وناسها من خلال اللوحة التشكيلية والمنحوتة والتصوير الفوتوغرافي.

وفي المعرض -الذي أقيم في العاصمة الأردنية عمان بتنظيم رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين ومشاركة وزارة الثقافة وجاليري إطلالة اللويبدة- شارك ستون فنانا وفنانة من 11 دولة.

أساليب وأجيال متنوعة
وتنوعت الأعمال بين النحت والرسم ومختلف الأساليب التي جسدها فنانون من أجيال متعاقبة، ومنهم: جلال أبو طالب الذي قدم منحوتة على الخشب، وعبد الرؤوف شمعون الذي رسم حارات القدس، ودانا خليل التي اختارت الزي التراثي لقرى القدس، وبدر عبد القادر الذي رسم قبة الصخرة بألوان شفافة وهندسة زخرفية إسلامية، أما منى نحلة من لبنان فقدمت عملا بأسلوب تعبيري لوجه مسكون بشجن الانتظار.

ويقول رئيس الرابطة الفنان كمال أبو حلاوة “المعرض يقام بالتزامن في عدد من الدول العربية والأجنبية، ومنها الهند وتركيا والأردن، وغزة التي يأتي معرضها لهذا العام تحت شعار “ميادين مسيرة العودة”.

لغة عالمية
وبين أبو حلاوة أن هدف المعرض الإبقاء على حق العودة، والقدس عاصمة أبدية لفلسطين، والتركيز على المقدسات الإسلامية والمسيحية، ومشاركة أكبر عدد من الفنانين الأردنيين والعرب والأجانب للتعريف بقضية تلك المدينة المقدسة وفلسطين، مستدركا أن أهمية الفن التشكيلي في كونه لغة عالمية لا تحتاج للترجمة.

وأشار إلى أن الحفاظ على الهوية يتلخص في رمزية القدس، وهي بالنسبة للفنان تمثل “أيقونة جمالية وفنية وتاريخا وحضارة وهوية”.

وقالت الفنانة دانا جودة إن القدس “رمز هوية وقضية” وهي بالنسبة للفنان عمر العطيات “حق ينبغي أن يرجع لأصحابه”. أما الفنان عماد أبو شتية فيرى أن القدس ملهمة للجمال والتسامح والحق، فهي أرض السلام التي (اغتصبت) ويجب أن تعود لأصحابها، وإذا كان الفن رسالة فإن على الفنان أن ينحاز للجمال والحق، وقالت الفنانة ناديا الخطيب “القدس أنا، الذاكرة المسلوبة التي أستعيدها باللوحة”.

وعن الأعمال المشاركة، قال أبو شتية: إن عمله مستوحى من مسيرات العودة في غزة، وهو مزيج من الكلاسيكية والانطباعية حيث نفذ العمل على مرحلتين الأولى الكلاسيكية، وبعدها تمت إضافة التأثيرات اللونية الانطباعية لتضيف ديناميكية للعمل.

وذهب العطيات للمزج بين المكان والمرأة بأسلوب سريالي، أما الفنانة جودة فرمزت للحج الذي يمثل المكان في العمل مركز الأرض للأديان وقبلة الناس في بقاع الدنيا.


يسعى المعرض لتجسيد هوية القدس العربية الإسلامية (الجزيرة)
يسعى المعرض لتجسيد هوية القدس العربية الإسلامية

وثيقة تاريخية
وعما يمكن أن يضيفه الفن لقضية فلسطين والقدس، تقول أمينة سر الرابطة ميرفت هليل: إن الفنان يمثل ذاكرة الأمة البصرية، واللوحة هي مدونة لتاريخ النضال الإنساني، وبالنسبة للقضية الفلسطينية والقدس فهي تمثل خندقا نضاليا، وهذا ما يفسر العدد الكبير للفنانين الفلسطينيين في فلسطين وفي الشتات، لأنهم يعتبرون اللوحة وسيلة للمقاومة.

وأشارت إلى أن من يراجع تاريخ الفن الفلسطيني يجد أن كثيرا من الفنانين قضوا دفاعا عن فلسطين، ومنهم من تعرض للسجن والنفي والحصار. وما يدل على أهمية الفن أن المحتل الصهيوني كان يمنع الكثير من المعارض ويصادر اللوحات (يحبسها) أو (يقتلها) كما حدث أن أطلق النار على لوحة للفنان إسماعيل شموط، وأكدت هليل أن العدو يدرك أهمية الفن وارتباطه بالوجدان والذاكرة فيحاول قتل الوجدان والذاكرة، لافتة إلى أن الفن وثيقة تاريخية مشيرة إلى لوحة بيكاسو (الجرنيكا) التي صورت مأساة القرية التي قصفت بالطائرات.

وتقول أيضا: إن “الطريق إلى القدس” رسالة الفنان والفن لمواجهة العدوان والاحتلال، وتظاهرة لمواجهة الضم والمحو والتشويه التي تبقي جذوة النضال متقدة، تنتقل من جيل إلى جيل.

وبينت أن المعرض بمثابة (مؤتمر فني دولي) يقام بمشاركة مئات الفنانين من دول العالم، حيث أقيم العام الماضي في 18 عربية وأجنبية ويتسع عدد المشاركات كل عام، و”الطريق إلى القدس” (تصويت) عالمي لمواجهة “التصريحات” التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأن “القدس عاصمة إسرائيل”. وهذا المعرض دليل للقدس كما يراها الفنان بحاضرها ومستقبلها وماضيها، فهي “عاصمة فلسطين الأبدية”.

إلى ذلك تقول جودة: أن ترسم القدس فهذا يعني أن ترى فلسطين بعيون ملونة، شفافة حنونة، تستصرخ. أما العطيات فيرى أن الفن استمرار لحضور القضية في الذاكرة والوجدان العربي والعالمي. ومن جانبه يؤكد أبو شتية أن الفن (يوثق ويذكر ويحرض) الجيل نحو قضيته، والفن وسيلة للمقاومة لأن الصراع على القدس يأخذ منحى حضاريا وعسكريا وثقافيا، والفن هو أحد هذه الوجوه.


تنوعت الأعمال بين النحت والرسم ومختلف الأساليب التي جسدها فنانون من أجيال متعاقبة (الجزيرة)
تنوعت الأعمال بين النحت والرسم ومختلف الأساليب التي جسدها فنانون من أجيال متعاقبة

أجيال لم تر القدس
وبين أبو حلاوة أن المعرض يشتمل على لوحات وأعمال نحتية عبر الفنانون من خلالها بمختلف الأساليب والمدارس، ومنها: الواقعية والرمزية والانطباعية، موضحا أن الجديد في المعرض المشاركة الكبيرة من الفنانين، وخصوصا جيل الشباب الذين لم يزوروا القدس، ولكنها تعيش في قلوبهم، وبالتالي فإن تعبيرهم عن المكان جاء مختلفا معبرا عن الأمل والتفاؤل وليس الحزن والندب، فصوروا القدس بأزهى الألوان، بلوحات تعبر عن الفرح والأجواء الكرنفالية، معربا عن أمله أن يتم في المعارض المقبلة توسيع المشاركة للفنون البصرية والسمعية بمشاركة، مثل: الأفلام القصيرة والفيديو والوسائط المتعددة.

ولم يقتصر المعرض -الذي حضره جمهور من الكبار والصغار- على اللوحات، وإنما اشتمل على عدد من الفعاليات التي أقيمت في إطار المعرض، ومنها أمسية فنية وأخرى شعرية ورقصات استعراضية لفرق الدبكة. وقالت الطفلة لجين غالب “جيت أشوف القدس” وقال الكاتب سليم النجار: المعرض أثار الشجون والحزن. وقالت ميسم علي (عراقية) “القدس تعيش في قلوبنا وعيوننا”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى