سمير غانم.. المملوء بالبهجة

كتب / أشرف بيدس

صناعة الضحك من أرقي المهن في التاريخ, فهي تحمل الخير والسعادة والطمأنينة للناس, ونقيضها يفسر معناها الجميل والمملوء بالبهجة, ولأنه واحد من ظرفاء مصر المخلصين.. وشيخ طرق الفكاهة في عصرنا الحديث, وتاجر أمين لم يغش في تجارته أو يخلطها بمواد غير طبيعية, ظل مباحا للجميع, الإبداع اللحظي عنده أحد سمات شخصيته, فالإجابات الجاهزة والمكررة بضاعة لا يقتنيها, حتي ردود أفعاله طازجة ومبهرة, فهو قادر علي الاتيان بأداءات مختلفة حتي لو تكرر المشهد مئات المرات, ففي كل مرة لديه جديد يضاف, ومن ثم يصعب حصره وتحجيمه في أي قيود كتابية, فالرؤية والموهبة ثريتان تطغيان علي أي سطور, والشخصية الحقيقية تطوع الشخصية التمثيلية, وتضيف إليها ملامح يصعب الفصل بينهما..

ويبدو الأمر مستحيلا عند محاولة تذكر دور معين, ولكن من السهل تذكره في كثير من المشاهد دون مشقة البحث عن اسم الشخصية أو العمل.. سمير غانم ظل حاضرا بشحمه ولحمه وموهبته ومن دون عناء في البحث عنه..

 

تميز سمير غانم بالتواؤم والانسجام مع نفسه, شخصية محبة للحياة وللآخرين, لا يضمر حقدا لأحد, وفي حالة رضا تام طوال الوقت, فهو ليس فقط صانع للضحك بدرجة امتياز, لكنه أيضا مروج له وعلي أوسع نطاق ومن دون شروط أو مقدمات عقود.. ربما يتصيد الفرص لنشره وتحريض الناس علي ممارسته, ومن غير مواعيد, عنوانه معلوم للجميع لا تفصله مسافات أو حدود.. كان متاحا للجميع, رجالا, ونساءً, وشبابا, فتيات, وأطفالا, حتي الكبار أبناء جيله تعلقوا به لأنهم شركاء الرحلة الطويلة.
كثيرا من نجوم الكوميديا يتصنعون الجدية عن عمد في الحوارات الصحفية والتليفزيونية حتي ينفوا عن أنفسهم – هكذا يعتقدون- الانطباع الجمعي عند الجماهير بأنهم سطحيون, وكثيرا ما يلجأون للغوص في أمور عويصة ومصطلحات عقيمة تصيب المتفرج بالاكتئاب, وعلي العكس من هذا يحرص سمير غانم علي زرع البسمة علي الشفاة, فهو يدرك جيدا أن وظيفته الأساسية هي اسعاد الجماهير, ولأنه سيد المرتجلين لا يترك شاردة أو واردة من دون صبغها بنكهة كوميدية ترسم الابتسامة علي وجوه الناس.

يلاحظ من خلال مسيرته الفنية العطرة أنه لم يشغل باله بالصراعات والافيشات وترتيب الأسماء أو البطولات, يقف في منطقة بعيدة من هذا الوهج المصطنع, ولا يبخل في بذل الجهد لإضفاء المرح والبهجة, ورغم محاولات البعض في دفعه إلي المناطق الرمادية حيث الكلمات المفخخة والتعابير المبهمة, لكنهم يفشلون ويكون سلاحه هو السخرية والتهكم اللاذع ليس بغرض التسطيح وانما لأنه فنان متوائم ومنسجم مع طبيعته التي تشع خفة ظل لا يستطيع تجاهلها مهما كانت الاغراءات.
من أسهل طرق الأداء والتي تسكنها الطبيعة يقدم أداءاته الرائعة دون تشنج أو مبالغة, وبأريحية استثنائية قد يراها البعض بأنها عادية ولا تتطلب تركيزا أو جهدا, لكنه السهل الممتنع الذي تراكم لديه مع سنوات الخبرة في المسرح وتعامله المباشر مع الجماهير وجها لوجه, والتي أتت إليه ولا تنتظر منه سوي شيء واحد وهو أن تضحك, ولم يخذلهم ابدا.

يصعب أن تضبط سمير غانم متلبسا بالاداء المنفرد, أو استغلال زملائه لحصد الاعجاب وحده, فهو دائما قادر علي تحريك وإظهار وإشعاع كل من يقف أمامه, ومده بما يلزم ليعبر عن إمكاناته وقدراته في حضرة فنان متمرس يمكنه إدارة المشاهد الكوميدية بخفة ظل متناهية وغير معتادة تصيب كل من يقف أمامه بعدوي التفوق والتميز.
في فن الضحك تكون الاغراءات في الفوز بالنصيب الأكبر من اكتساب تعاطف الجماهير وتحلقهم حول النجم أمرا لا يستطيع الكثيرون التضحية به, وكثيرا ما يكون الصراع والتنافس شديدا, لكن كبار الكوميديانات وعلي رأسهم سمير غانم لا يقلقهم الأمر, فهو قادر أن يبعث الضحك وقتما شاء وبأسهل الطرق ومن دون اللجوء إلي الايفيهات الرخيصة.
يملك سمير غانم شعبية وجماهيرية عريضة بحجم موهبته الاستثنائية, ورغم ذلك ظلمت أعماله نقديا, وأغفل المهتمون بالأمر العناية به احتفائيا عكس ما حدث مع آخرين بالكاد هم أساتذة في مدرسة يديرها ببراعة وبتفرد, ربما يرجع السبب في ذلك للنظرة الضيقة للكوميديا الذي ظل وفيا لها حتي آخر مشهد قام بتجسيده, ثم التفتوا فجأة مع دور “حكيم” في “شربات لوز” وتنبهوا بأن الرجل لم تكن تنقصه القدرة علي تقديم ألوان مختلفة, وهو يملك بالفعل لونا ناصعا واضحا يزداد بريقا مع الوقت ولا ينافسه فيه أحد.

كثيرا ما تتوقع الجماهير من الكوميديان ردود فعله, ورغم التكرار يظلون شغوفين برد الفعل المعروف سلفا, إلا في حالة سمير غانم فالأمر مختلف فهو لا يلجأ إلي الكتالوجات الجاهزة ودائما ما يفاجأ الجماهير بما هو غير متوقع, وربما يكون الكوميديان الوحيد الذي ينفرد بكم هائل من المشاهدات في المقابلات الصحفية لأنه يحرص علي إرضاء الجماهير ولا ينجرف ناحية المزايدات, فكل المشكلات والأزمات لديها عنده رؤية كوميدية تبعث الابتسامة بيسر وسهولة.

رغم قدرته المذهلة علي الارتجال والخروج المشروع عن النص, لا يلجأ للخروج عن الأدب أو خدش الحياء ويحرص دائما علي وضع معايير وضوابط للضحك, وتوظيف الحدث الدرامي ليعبر عن الناس ومن دون تضخيم مخل ينسف الفكرة ومحتواها.. الضحك موجود بوفرة عند سمير غانم لأنه حالة عامة وغير معبأة في قوالب معينة, ففي الشارع أو المسلسل أو الفيلم أو المسرحية أو الفزورة أو حتي في الاعلانات مساحات البسمة شاسعة وبطرق مبتكرة لا يجرؤ أحد علي تقليدها لأنها معه أصبحت براند مختومة بختمه الخاص, وهو أيضا ملك الاكسسوارات التي يلجأ إليها عن قصد لإسعاد جماهيره.
إن من يبحر في مسيرة سمير غانم الفنية يكتشف رصيدا ملهما من المواقف الكوميدية التي لا يمكن إعادة تدويرها مرة أخرى, وهو لم يدع أنه مصلح اجتماعي أو باحث كوميدي أو أستاذ في علم الضحك, فتلقائيته المفرطة تنزع البسمة في التو واللحظة حتي يظن البعض أنها معدة من قبل, لكن ذهنه الحاضر ومخزونه الفكاهي ورؤيته المغايرة للأحداث تتيح له النفاذ واطلاق قذائفه التي لم تنفد.. لجأ كل الكوميديانات لمغازلة النقاد بتجسيد أدوار تراجيدية بعد إهمال غير مبرر, لكن سمير ظل وافيا للكوميديا, ولم يشغل باله لجوء كل الكوميديانات إلى الأدوار التراجيدية التي فتحت لهم مسارات عديدة للعمل, وإن كانت افقدتهم التميز الذي ظل محتفظا به وراضيا.

ظل سمير غانم مملوء بالضحك والفكاهة في جميع فترات حياته ولم يعلن إفلاسه أو تشح موارده, دائم العطاء, مخلصا لمهنته ورسالته ووفيا في تقديم العون والمدد لتلاميذه وأبنائه, وأيضا متحملا مسئوليته بامتياز ومن دون ضوضاء أو مساعدة آلة اعلامية تقف وراءه وتسانده, كل ذلك حدث بتواضع وإنكار للذات لم يشهد له مثيل.

من يتتبع تصريحاته وآراءه يكتشف طيبة متناهية وأخلاقا رفيعة وقدرة مدهشة علي احترام زملائه والبعد عن مهاجمتهم سواء بالتلميح أو التشهير, لا يميل إلي التراشق أو تصفية الحسابات, فهو يملك رصيدا كبيرا من الحب والعطاء والأستاذية من غير مانشيتات, لذلك سيظل سمير غانم عملة أصلية وفريدة بوجهيها الفني والأخلاقي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى